غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [الإسراء : 29] ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه لأنهما كلامان متعاقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود ، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد ، كقوله [من الكامل] :
جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه ووهاده
ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله [من الكامل] :
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
[ ص: 266 ] ويقال : بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان ، ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به . فإن قلت : قد صح أن قولهم : يد الله مغلولة عبارة عن البخل . فما تصنع بقوله : غلت أيديهم ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت : يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا وأنكدهم ، ونحوه بيت أبخل خلق الله [من الكامل ] : الأشتر
بقيت وفرى وانحرفت عن العلا ولقيت أضيافي بوجه عبوس
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة ، يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم ، والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز ، كما تقول : [ ص: 267 ] سبني سب الله دابره ، أي : قطعه; لأن السب أصله القطع . فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم ، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم . فإن قلت : لم ثنيت اليد في قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان وهي مفردة في يد الله مغلولة ؟ قلت : ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه ، وذلك أن غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعا فبني المجاز على ذلك ، وقرئ : "ولعنوا" بسكون العين ، وفي مصحف عبد الله : "بل يداه بسطان" . يقال : يده بسط بالمعروف ، ونحوه مشية شحح وناقة صرح ينفق كيف يشاء : تأكيد للوصف بالسخاء ، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة . روي أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه وليزيدن أي : يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفروا بآيات الله وألقينا بينهم العداوة فكلمهم أبدا مختلف ، وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد كلما أوقدوا نارا : كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام في ملك المجوس ، وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم [ ص: 268 ] أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين ، وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم ، وعن - رضي الله عنه - لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس قتادة ويسعون : ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم .