مكية، وآياتها أربعون [نزلت بعد القارعة]
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة
إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس [من المتقارب]:
لا وأبيك ابنة العامري ي لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوثة بن سلمى [من الوافر]:ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي
في بئر لاحور سرى وما شعر
واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح; لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد. ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته. والوجه أن يقال: هي للنفي. والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [الواقعة: 75-76]. فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام; يعني أنه يستأهل فوق ذلك. وقيل: إن "لا" نفي لكلام ورد له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أي: ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة. فإن قلت: قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون [النساء: 65]. والأبيات التي أنشدتها: المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أن "لا" التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفيا، كقوله: لا أقسم بيوم القيامة ، لا تتركون سدى؟ قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر. ألا ترى كيف لقي لا أقسم بهذا البلد [البلد: 1]. بقوله: لقد خلقنا الإنسان [التين: 4]. وكذلك فلا أقسم بمواقع النجوم [الواقعة: 75]. بقوله: إنه لقرآن كريم وقرئ: "لأقسم" على أن اللام للابتداء. وأقسم خبر مبتدأ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف بالنفس اللوامة بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه؛ أي في [ ص: 267 ] التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن : إن المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وإن الكافر يمضي قدما لا يعاتب نفسه. وقيل: هي التي تتلوم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة. وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله: الحسن أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه وهو لتبعثن. وقرأ قتادة: "أن لن تجمع عظامه"، على البناء للمفعول. والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا مختلطا بالتراب، وبعدما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل: إن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: "اللهم اكفني جاري السوء" قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ، حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم; فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أويجمع الله العظام، فنزلت: بلى أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل: بلى نجمعها و قادرين حال من الضمير في نجمع، أي: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول إلى أن نسوي بنانه؛ أي: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه. أو على أن نسوي بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام. وقيل: معناه: بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه، أي: نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار لا تفرق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبسط والقبض، والتأني لما يريد من الحوائج. وقرئ: "قادرون" أي: نحن قادرون، بل يريد عطف على أيحسب فيجوز أن يكون مثله استفهاما، وأن يكون إيجابا على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب ليفجر أمامه ليدوم على [ ص: 268 ] فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن رضي الله عنه: يقدم الذنب ويؤخر التوبة. يقول: سوف أتوب، سوف أتوب: حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله سعيد بن جبير يسأل سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله: أيان يوم القيامة ونحوه: ويقولون متى هذا الوعد.