فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين
يقال : سلم لأمر الله وأسلم ، واستسلم بمعنى واحد . وقد قرئ بهن جميعا إذا انقاد له وخضع ، وأصلها من قولك : سلم هذا لفلان إذا خلص له . ومعناه : سلم من أن ينازع فيه ، وقولهم : سلم لأمر الله وأسلم له منقولان منه ، وحقيقة معناهما : أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة ، وكذلك معنى استسلم : استخلص نفسه لله . وعن في "أسلما " أسلم هذا ابنه وهذا نفسه قتادة وتله للجبين صرعه على شقه ، فوقع أحد جنبيه على الأرض ، تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد ; ليرضيا الرحمن ويخزيا الشيطان . وروي أن ذلك كان عند الصخرة التي بمنى ، وعن : في الموضع المشرف على الحسن مسجد منى . وعن : في المنحر الذي ينحر فيه اليوم . فإن قلت : أين جواب لما ؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلما وتله للجبين الضحاك وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما ، وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما ، من بعد حلوله ، وما اكتسبا في تضاعيفه بتوطين الأنفس عليه من الثواب والأعواض [ ص: 223 ] ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب ، وقوله : دفع البلاء العظيم إنا كذلك نجزي المحسنين تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة ، والظفر بالبغية بعد اليأس البلاء المبين الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم . أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها . الذبح : اسم ما يذبح . وعن رضي الله عنهما : هو الكبش الذي قربه ابن عباس هابيل فقبل منه ، وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل . وعن : فدي بوعل أهبط عليه من ثبير . وعن الحسن : لو تمت تلك الذبيحة لكانت سنة وذبح الناس أبناءهم "عظيم " ضخم الجثة سمين ، وهي السنة في الأضاحي . وقوله عليه السلام : ابن عباس وقيل : لأنه وقع وفداء عن ولد "استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم " إبراهيم . وروي أنه هرب من إبراهيم عليه السلام عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه ، فبقيت سنة في الرمي ، وروي أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده . وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر ، فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر ، فقال إبراهيم عليه السلام : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي سنة ، وحكي في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسط شعب ثبير أخبره بما أمر . فقال له : اشدد رباطي لا أضطرب ، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي حتى تجهز علي ; ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل ، فإنه عسى أن يكون أسهل لها ، فقال إبراهيم عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقلبه وقد ربطه ، وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه فلم تعمل ; لأن الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه ، فقال له : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة تحول بينك وبين أمر الله ، ففعل ، ثم وضع السكين على قفاه [ ص: 224 ] فانقلب السكين ، ونودي : يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، فنظر فإذا جبريل عليه السلام معه كبش أقرن أملح ، فكبر جبريل والكبش ، وإبراهيم وابنه ، وأتى المنحر من منى فذبحه . وقيل : لما وصل موضع السجود منه إلى الأرض جاء الفرج ، وقد استشهد رحمه الله بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده : أنه يلزمه ذبح شاة ، فإن قلت : من كان الذبيح من ولديه ؟ قلت : قد اختلف فيه ، فعن أبو حنيفة ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين : أنه ومحمد بن كعب القرظي إسماعيل . والحجة فيه : عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله : لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله ، وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بمائة من الإبل ، والثاني إسماعيل " ، وعن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنا ابن الذبيحين " وقال له أعرابي : يا ابن الذبيحين ، فتبسم ، فسئل عن ذلك فقال : "إن قال : كان مجتهد بني إسرائيل يقول إذا دعا : اللهم إله محمد بن كعب القرظي إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، فقال موسى عليه السلام : يا رب ، ما لمجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال : اللهم إله إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل ، وأنا بين أظهرهم ، فقد أسمعتني كلامك واصطفيتني برسالتك ؟ قال : يا موسى ، لم يحبني أحد حب إبراهيم قط ، ولا خير بيني وبين شيء قط إلا اختارني . وأما إسماعيل فإنه جاد بدم نفسه . وأما إسرائيل فإنه لم ييأس من روحي في شدة نزلت به قط ، ويدل عليه أن الله تعالى لما أتم قصة الذبيح قال : وبشرناه بإسحاق نبيا [الصافات : 112 ] وعن أنه قال محمد بن كعب : هو لعمر بن عبد العزيز إسماعيل ، فقال : إن هذا شيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى يهودي قد أسلم فسأله ، فقال : إن اليهود لتعلم أنه عمر إسماعيل ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب ، ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت . وعن قال : سألت الأصمعي عن الذبيح فقال : يا أبا عمرو بن العلاء أصمعي أين عزب عنك [ ص: 225 ] عقلك ؟ ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة ، ومما يدل عليه أن الله تعالى وصفه بالصبر دون أخيه إسحاق في قوله : وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين [الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح ، ووصفه بصدق الوعد في قوله : إنه كان صادق الوعد [مريم : 54 ] ; لأنه وعد أباه الصبر من نفسه على الذبح فوفى به ، ولأن الله بشره بإسحاق وولده يعقوب في قوله : فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [هود : 71 ] فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفا للموعد في يعقوب ، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وجماعة من التابعين : إنه وعكرمة إسحاق . والحجة فيه أن الله تعالى أخبر عن خليله إبراهيم حين هاجر إلى الشام بأنه استوهبه ولدا ، ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ، ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به . ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله . فإن قلت : قد أوحي إلى إبراهيم صلوات الله عليه في المنام بأن يذبح ولده ولم يذبح ، وقيل له : قد صدقت الرؤيا ، وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح ، ولم يصح قلت : [ ص: 226 ] قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح : من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه ، ولكن الله سبحانه جاء بما منع الشفرة أن تمضي فيه ، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم عليه السلام ، ألا ترى أنه لا يسمى عاصيا ولا مفرطا ، بل يسمى مطيعا ومجتهدا ، كما لو مضت فيه الشفرة وفرت الأوداج وأنهرت الدم ، وليس هذا من ورود النسخ على المأمور به قبل الفعل ، ولا قبل أوان الفعل في شيء ، كما يسبق إلى بعض الأوهام حتى يشتغل بالكلام فيه . فإن قلت : الله تعالى هو المفتدى منه ; لأنه الآمر بالذبح ، فكيف يكون فاديا حتى قال : "وفديناه " ؟ قلت : الفادي هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والله عز وجل وهب له الكبش ليفدي به وإنما قال : "وفديناه " إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته . فإن قلت : فإذا كان ما أتى به إبراهيم من البطح وإمرار الشفرة في حكم الذبح . فما معنى الفداء ، والفداء إنما هو التخليص من الذبح ببدل ؟ قلت : قد علم بمنع الله أن حقيقة الذبح لم تحصل من فري الأوداج وإنهار الدم ، فوهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة حتى لا تحصل تلك الحقيقة في نفس إسماعيل ، ولكن في نفس الكبش بدلا منه . فإن قلت : فأي فائدة في تحصيل تلك الحقيقة ، وقد استغنى عنها بقيام ما وجد من إبراهيم مقام الذبح من غير نقصان ؟ قلت : الفائدة في ذلك أن يوجد ما منع منه في بدله حتى يكمل منه الوفاء بالمنذور وإيجاد المأمور به من كل وجه . فإن قلت : لم قيل [ ص: 227 ] ها هنا ( كذلك نجزي المحسنين ) وفى غيرها من القصص : إنا كذلك ؟ قلت : قد سبقه في هذه القصة : ( إنا كذلك ) ، فكأنما استخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية .