وما يستوي الأعمى والبصير أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتهما ، وتفسير ( البصير ) بالله تعالى ( والأعمى ) بالصنم غير مناسب هنا والذين آمنوا وعملوا الصالحات أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى : ولا المسيء وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان ، وقدم ( الأعمى ) لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم ، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم ، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا ، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور [فاطر : 19 - 22] وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل ذلك من باب التفنن [ ص: 80 ] في البلاغة وأساليب الكلام ، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل : ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث .
وأعيدت لا في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة ، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن ، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له ، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام ، ولو قيل : ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ و قليلا ما تتذكرون خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي ، وهو أن تم فعلي القراءة بياء الغيبة ، وقيل : لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذ المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر ، والموصول مع ما عطف عليه معطوف على ( الأعمى ) مع ما عطف عليه عطف المجموع على المجموع كما في قوله تعالى : هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد : 3] ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف ، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه ، وقيل : التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم ، وفي الأخيرين إلى العمل ، وهو وجه لا بأس به ، وقيل : هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبارا من حيث إن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل ، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه .
قليلا ما تتذكرون أي تذكرا قليلا تتذكرون . وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار ، قال : والتاء أعم ، وعلله صاحب التقريب بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، وقال الزمخشري القاضي : إن التاء للتغيب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله ، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين . وتعقبه صاحب الكشف بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم ، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا والتقليل أيضا يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي ، وقال الجلبي : الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي ، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال : المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : فاصبر ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقد سها ولم يتذكر .