وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل ، والاستدلال بقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [مريم : 85] لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة ، وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم . انتهى . وأقول : إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها ، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا . ففي صحيح عن مسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ابن مسعود الحديث ، وقال بعض العارفين : إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عز وجل ثانيا لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة ، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عز وجل وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول : «آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه »
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
ويدل على رؤيتهم إياه عز وجل هناك ما في صحيح عن مسلم قال : أبي هريرة الحديث ، ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى . «إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا قال : [ ص: 34 ] فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس ويتبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم »
وقيل : السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية الإرب ، وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقرئ بالتشديد ، والواو للحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها كقوله تعالى : جنات عدن مفتحة لهم الأبواب [ص : 50] ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأن خزنة الجنات فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم ، وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له ، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه ، والظاهر أن قوله تعالى : وقال لهم خزنتها .. إلخ . عطف على ( فتحت أبوابها ) وجواب ( إذا ) محذوف مقدر بعد ( خالدين ) للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل : إذا جاءوها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء .
طبتم أي من دنس المعاصي ، وقيل : طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم ، والأول مروي عن وهو الأظهر ، والجملة في موضع التعليل مجاهد فادخلوها خالدين أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم ، وقدره سعدوا بعد ( خالدين ) أيضا ، ومنهم من قدره قبل ( وفتحت ) أي حتى إذا جاءوها جاءوها وقد فتحت وليس بشيء ، ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل ( وقال ) وجعل جملة «قال ».. إلخ . معطوفة عليه ، وما تقدم أقوى معنى وأظهر . المبرد
وقال الكوفيون : واو ( وفتحت ) زائدة والجواب جملة ( فتحت ) وقيل : الجواب ( قال لهم خزنتها ) والواو زائدة ، والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار : حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقوله جل شأنه في أهل الجنة : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها حيث جيء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى ، فما قيل : إن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه .
واستدل المعتزلة بقوله : طبتم فادخلوها حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا . ورد بأنه وإن دل على أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة .
[ ص: 35 ] وقيل : المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه . وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى : فنعم أجر العاملين فتدبر