ومما قررنا يعلم سر كثرة افتتاح العبد دعاءه يا رب يا رب، مع أنه تعالى ما عين هذا الاسم الكريم في الدعاء ونفى ما سواه، بل قال سبحانه: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وقال: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وقال أرباب الظاهر: الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله، وتربية لنفسه، فناسب أن يدعوه بهذا الاسم، ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة، وأقوى لتحريك عرق الرحمة، وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام باختلاف المقام فرقا وجمعا، وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت [ ص: 81 ] أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فهم ينادونه سبحانه بأول اسم قررهم به، فأقروا، وأخذ به عليهم العهد فاستقاموا واستقروا، فهو حبيبهم الأول، ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل.
تركت هوى سعدى وليلى بمعزل وعدت إلى مصحوب أول منزل ونادتني الأهواء مهلا فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزل
قد يرحل المرء لمطلوبه والسبب المطلوب في الراحل
داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم
وحكي عن بعض النحاة جواز الإعمال مطلقا، وقيل: بالنداء، ولا يخفى ما فيه من اللبس، والفصل، والالتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء الله تعالى يلتفت إليه، وقيل: رب فعل ماض، وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم، وأن الجملة لا تكون صفة، والحالية غير حسنة الحال، مع أنه قرئ بنصب ما بعد، والمناسب المناسبة، وأهون الأمور عندي أولها [ ص: 82 ] بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع، ثم أنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر عموم تربيته صرح بعظيم رحمته فقال عز شأنه: الرحمن الرحيم وقد تقدم الكلام عليهما، والجمهور على خفضهما ونصبهما، زيد، وأبو العالية، وابن السميقع، وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو رزين العقيلي، والربيع بن خيثم، وأبو عمران الجولي، واستدل بعض ساداتنا بتكرارهما على أن وليس بالقوي لأن التكرار لفائدة، فذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه، وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد، وقال الإمام البسملة ليست آية من الفاتحة، قدس سره في بيان حكمة التكرار: التقدير كأنه قيل له: اذكر أني إله ورب مرة واحدة، واذكر أني رحمن رحيم مرتين، لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة، فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين، ونظيره قوله تعالى: الرازي غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب انتهى، وفي القلب منه شيء، فإن الألوهية مكررة أيضا كما ترى، وعندي بمسلك صوفي أن ذكر الرحمن الرحيم تفصيل من وجه لما في رب العالمين من الإجمال، وذلك أن التربية تنقسم ببعض الاعتبارات إلى قسمين: أحدهما التربية بغير واسطة، كالكلمة لأنه لا يتصور في حقه واسطة البتة، وثانيهما التربية بواسطة كما فيمن دون الكلمة، وهذا الثاني له قسمان أيضا، قسم ممزوج بألم كما في تربية العبد بأمور مؤلمة له شاقة عليه، وقسم لا مزج فيه كما في تربية كثير ممن شمله اللطف السبحاني.
غافل والسعادة احتضنته وهو عنها مستوحش نفار
اللهم اجعلنا سعداء الدارين بحرمة سيد الثقلين صلى الله تعالى عليه وسلم، مالك يوم الدين قرأ " مالك " كفاعل مخفوضا عاصم ، والكسائي في اختياره وخلف وهي قراءة العشرة إلا ويعقوب، طلحة وقراءة كثير من الصحابة منهم والزبير، أبي، ، وابن مسعود ومعاذ، ، والتابعين منهم وابن عباس قتادة، وقرأ: (ملك) كفعل، بالخفض أيضا باقي السبعة، والأعمش، وزيد، وأبو الدرداء، وابن عمرو، والمسور، وكثير من الصحابة والتابعين، وقرأ (ملك) على وزن سهل، أبو هريرة وعاصم الجحدري ، ورواها الجعفي وعبد الوارث عن وهي لغة أبي عمرو، بكر بن وائل، وقرأ (ملكي) بإشباع كسرة الكاف أحمد بن صالح عن ، عن ورش ، وقرأ (ملك) على وزن عجل، نافع أبوعثمان والشعبي وعطية، وقرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمرو بن مسلم البصري (ملك يوم الدين) بنصب الكاف من غير ألف، وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص، وقرأ (ملك) فعلا ماضيا وعائشة، على ما قيل أبو حنيفة وأبو حيوة، وجبير بن مطعم، وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي، وينصبون اليوم، وذكر أن هذه قراءة ابن عطية كرم الله تعالى وجهه، علي بن أبي طالب والحسن ويحيى بن يعمر، وقرأ (مالك) بالنصب أيضا، الأعمش وابن السميقع، وعثمان بن أبي سليمان، وعبد الملك قاضي الهند، وذكر أنها قراءة ابن عطية عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان، وروى ابن عاصم عن اليماني (مالكا) بالنصب والتنوين، وقرأ (مالك) برفع الكاف والتنوين، ورويت عن خلف، وابن هشام ، وأبي عبيد، فينصب اليوم، وقرأ (مالك يوم) بالرفع والإضافة وأبي حاتم، ، أبو هريرة وأبو حيوة، بخلاف عنهم، ونسبها صاحب اللوامع إلى وعمر بن عبد العزيز شداد العقيلي البصري، وقرأ (مليك) كفعيل [ ص: 83 ] في رواية، أبو هريرة وأبو رجاء العطاردي، وقرأ (مالك) بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر، وأيوب السختياني، ويبين بين قتيبة بن مهران عن ، ولم يطلع على ذلك الكسائي فقال: لم يمل أحد، وذكر أنه قرأ (ملاك) بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف، فهذه عدة قراءات، ذكرتها لغرابة وقوع مثلها في كلمة واحدة، بعضها راجعة إلى الملك، وبعضها إلى المالك، قال بعض اللغويين : وهما راجعان إلى الملك، وهو الشد والربط، ومنه ملك العجين وأنشدوا قول أبو علي الفارسي، قيس بن الحطيم :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائما من دونها ما وراءها
واعترض ذلك كله، (أما أولا) فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان، لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين، ألا ترى أن صحيح مقدم على موطإ مالك، وهو عالم البخاري المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة، وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول : لا يخفى أن أهل الشهاب الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام، فمن وراء المنع أيضا، ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع، (وأما ثانيا) فلأن الاستدلال بقوله تعالى : لمن الملك اليوم يخدشه قوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة، وهو يوم الدين، ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له، إذ السياق لبيان عظمته تعالى، والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر، وإن كثر استعماله فيه.
(وأما ثالثا) فلأن ما في الناس مغاير لما هنا، لأن مالك الناس لو كان هناك كما قرئ به شذوذا يتكرر مع رب الناس، وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام، (وأما رابعا) فلأن ما ادعاه من أن الملك بضم الميم يعم، والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر، والظاهر أن بين المالك والملك عموما وخصوصا من وجه لغة عرفا، فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك رقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك و والتاجر مالك غير ملك، والسلطان على بلد لا ملك له فيها غير مالك، (وأما خامسا) فبأن التكرار الذي زعمه صاحب الكشف قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام، إذ مالك، الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك.
(وأما سادسها) فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية، فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه، ولهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وعندي لا ثمرة للخلاف، والقراءتان فرسا رهان، ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى، كما قاله ولا التفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر، ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لدي الأدلة، وسدت علي الباب الآثار، وانقلب إلي بصر البصيرة خاسئا وهو حسير، إلا أني أقرأ السمين، كالكسائي : (مالك) لأحظى بزيادة عشر حسنات، ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة، والطمع بالمالك من حيث أنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث أنه ملك، فأقضى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا برأس، ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك، فالقراءة به [ ص: 84 ] أرفق بالمذنبين مثلي، وأنسب بما قبله، وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته، فإن سماع يوم الدين يقلقل أفئدة السامعين، ويشبه ذلك من وجه قوله تعالى: عفا الله عنك لم أذنت لهم والمدار على الرحمة، لا سيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب، على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب، وكأني بك تعارض هذه النكت، وما علي فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن، واليوم في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان، وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا : عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني، وغروب الشمس، ويطلق على مطلق الوقت، ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف، وتركيبه غريب، إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو، ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم، وتصاريفه، والدين الجزاء، ومنه الحديث المرسل عن الأعمش أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وقيل: فرق بينهما، فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازي، والجزاء أعم، وقيل: الدين اسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب، إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به، فلا يقال لمن جازى عن غيره أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل دين، ويقال جزاء، والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى، فيوم الدين هو يوم الجزاء، ويؤيده قوله تعالى: (البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت كما تدين تدان)، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت و اليوم تجزون ما كنتم تعملون وإضافة (مالك) إلى (يوم) على التوسع، وقد قال النحاة: الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله، والأول كيوم وليلة، فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى (في) فيجري مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير، فإذا قلت: سرت اليوم، كان منصوبا انتصاب زيد في: ضربت زيدا، ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا، لأن السير يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد، ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية، ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم، ولا يظهر في الاسم الظاهر، وإنما يظهر في الضمير كقوله :
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهار نوافله
وحكى ابن السراج جوازه، والتوسع هذا تجوز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي، فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر، أو نزل منزلة اللازم، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف، ولذا قال : اتفقوا على أن معنى الظرف متوسعا فيه، وغير متوسع فيه سواء، والمعنى: مالك الأمر كله في يوم الدين، وهذا ثابت له سبحانه أزلا وأبدا، لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك، أو من الصفات الفعلية، وهي عند الرضي الماتريدية مثلها، بل قال الزركشي : من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرزاق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة، وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال، أو المعنى: ملك الأمور يوم الدين على حد: ونادى أصحاب الجنة ففي الآية استعارة تبعية كما يفهمه كلام العلامة في تفسيره، وعلى التقديرين يصح وقوعه للمعرفة، لأن الإضافة حينئذ حقيقية، ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف، لأنه مفعول من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه، كما قاله البيضاوي الشريف، وفيه تأمل، والأولى باستمرار الاعتبار الاستمرار، والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون [ ص: 85 ] كذلك، والتعيين مفوض للمقام، وذلك لاشتماله على الأزمنة الثلاث، ولا يرد أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة، فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الاستمرار، لأنا نقول: ليس عند ربك صباح ولا مساء، وهو سبحانه ليس بزماني؟ والأزل والأبد عنده نقطة واحدة، والفرق بينهما بالاعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب، فالاستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة، ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان موجودا، ويوم الدين غير موجود الآن، وأجاب غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال، وأيضا من مات فقد قامت قيامته، فكأن القيامة حاصلة في الحال، فزال السؤال، ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم، إذ يقال بعد: إن تملك المعدوم محال، إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله، لأن تملك الزمان كتملك المكان، يستلزم تملك جميع ما فيه، ويلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي، والاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك، فلا يرد المنع، وأنت إذا قرأت (ملك) تسلم من هذا القيل إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان، وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر، وهو ملحق باسم الفاعل فيرد عليك ما ورد علينا، وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف، بل ذلك يزيدني في المالك حبا، وإنما قال: مالك يوم الدين ولم يقل: يوم القيامة، مراعاة للفاصلة، وترجيحا للعموم، فإن الدين بمعنى الجزاء، يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم، بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها، على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو اعتباره عن لطف، وأيضا للدين معان شاع استعماله فيها كالطاعة والشريعة، فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ، وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض، والمعنى حينئذ على تقدير مضاف، فعلى الأول: يوم الجزاء الكائن للدين، وعلى الثاني: يوم الجزاء الثابت في الدين، وإذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا وباطنا، وجعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير، وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات، والأيام، إما للتعظيم، وإما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان، وينسلخ الخلق عنهما انسلاخا ظاهرا في الآخرة، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادا لا خفاء فيه، ولذلك قال سبحانه: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله و لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وأيضا هنالك يجتمع الأولون، والآخرون، ويقوم الروح والملائكة صفا، وتجتمع العبيد في صعيد واحد، وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور، فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد، فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع، على توالي الأزمان، وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة، كما افتتح بما يشير إلى الإبداء، وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق، وتمهيد لما لحق، وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله، بل مع العلم بصفات الكمال، ونعوت الجلال، وهذه أمهاتها، ولم تك تصلح إلا له، ولم يك يصلح إلا لها، وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة: إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته، وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته، فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم، فكأنه سبحانه يقول: يا عبادي، إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني [ ص: 86 ] أنا الله، وإن كان للإحسان والتربية والإنعام، فإني أنا رب العالمين، وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل، فإني أنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف، فإني أنا مالك يوم الدين، ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر عقلا قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته، ووصفه بكونه بالعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به، فدل ذلك على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده، وهو على ما فيه دليل عليه له، لأنه بيان من الله تعالى لا يجابه، فهو سمعي لا عقلي، فالمستدل به كناطح صخرة، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف، فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي، فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي، ألا بذكر الله تطمئن القلوب وباسم الرب للنفس الشيطانية رب أعوذ بك من همزات الشياطين وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر الملك يومئذ الحق للرحمن وباسم الرحيم للنفس البهيمية أحل لكم الطيبات وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف سنفرغ لكم أيه الثقلان
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة، وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة، والسبعية بطلب الهداية، والبهيمية بطلب الاستقامة وتواضعت الروح القدسية، فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة، وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله، والصلاة من أنوار تجلي الرب، وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن، وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم، والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين، وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد، ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه: إياك نعبد وإياك نستعين إيا في المشهور ضمير نصب منفصل، واللواحق حروف زيدت لبيان الحال، وقيل: أسماء أضيف هو إليها، وقيل: الضمير هي تلك اللواحق، وإيا دعامة، وقيل: الضمير هو المجموع، وقيل: إيا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق، وزعمأبو عبيدة اشتقاقه، وهو جهل عجيب، والبحث مستوفى في علم النحو، وقد جاء (وياك) بقلب الهمزة واوا، ولا أدري أهو عن القراء، أم عن العرب، وقرأ عمرو ابن فائد عن (إياك) بكسر الهمزة وتخفيف الياء، أبي وعلي وأبو الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الهمزة والتشديد، وأبو السوار الغنوي (هياك) بإبدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء، والجمهور (إياك) بالكسر والتشديد، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا لله تعالى، لأنه المستحق لذلك، لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة، والوجود، وتوابعهما، ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه، لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء وهو التراب موطئ الأقدام والنعال غاية الخضوع، وقيل: لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه، وما ورد من نحو قوله تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم، وتستعمل بمعنى الطاعة، ومنه أن لا تعبدوا الشيطان وبمعنى الدعاء ومنه إن الذين يستكبرون عن عبادتي وبمعنى التوحيد ومنه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وكلها متقاربة المعنى، وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات، لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه، ويختص باسم الزاهد، حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أدوم، وأشرف، وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى، وتسمى عبادة، وإما أن يعبد الله تعالى تشرفا بعبادته، أو لقبوله لتكاليفه، أو بالانتساب إليه، وهذه مرتبة متوسطة، وتسمى بالعبودية، وإما أن يعبد الله تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه، ولا يقتضيه إلا الخضوع والذلة، وهذه أعلى الدرجات، وتمسى بالعبودة، وإليه الإشارة بقول المصلي: أصلي لله تعالى، فإنه [ ص: 87 ] لو قال: أصلي لثوابه تعالى مثلا، أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته، والاستعانة طلب المعونة، وياء فعله منقلبة عن واو، وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية، أما الجبرية فقالوا: لو كان العبد مستقلا لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا: السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير، أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة، وقد أشار ناصر الملة والدين بيض الله تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك، حيث قال: وهي إما ضرورية أو غيرها، والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها، وعند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطالة، ويصح أن يكلف بالفعل، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل، ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، أو يقرب الفاعل إلى الفعل، ويحثه عليه، وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى. البيضاوي
وحاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل، أو يوجب اليسر عليه، وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر، وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن العباد قدرا مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي، لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا، بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية ، إذ الضرورة تكذبه، ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا، كاليد المشلولة، كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة ، إذ هو في المآل كقول الجبرية، وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية، إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤوا، فالله تعالى يريد ما لا يفعله العبد، ويفعل العبد ما لا يريده تعالى، كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ووجه الاستدلال أن إياك نعبد مشير إلى صدور الفعل من العباد، وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد، ومن لا قدرة له، أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد، لا يقال له أوجد، وصحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر، لا يرتضيه المنصف العاقل، وقوله: وإياك نستعين يدل على نفي الاستقلال فيه، وأنه بإذن الله تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم، فلا جبر، ولا تفويض، فاحفظه وانتظر تتمته.
ولو كان هذا موضع القول لاشتفى فؤادي ولكن للمقال مواضع