وإن لم يحنث إلا على قول حلف لا يأكل لحما ، فأكل سمكا [ ص: 176 ] طريا أو مالحا رحمه الله تعالى ، فإنه يحمل الأيمان على ألفاظ القرآن ، وقد قال الله تعالى { مالك : لتأكلوا منه لحما طريا } ، وقد بينا بعد هذا ، والدليل عليه أنه من لا يحنث ، وقد قال { حلف لا يركب دابة فركب كافرا إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } ، ثم معنى اللحمية ناقص في السمك ; لأن اللحم ما يتولد من الدم وليس في السمك دم ، ومطلق الاسم يتناول الكامل ، وكذلك من حيث العرف لا يستعمل السمك استعمال اللحم في اتخاذ الباحات منه ، وبائع السمك لا يسمى لحاما ، والعرف في اليمين معتبر ، إلا أن يكون نوى السمك ، فحينئذ تعمل نيته ; لأنه لحم من وجه ، وفيه تشديد عليه ، وهو نظير قوله : كل امرأة له طالق لا تدخل المختلعة فيه إلا بالنية : وكل مملوك لا يدخل فيه المكاتب .
قال : ألا ترى أنه إن أكل رئة أو كبدا لم يحنث ، وفي رواية أبي حفص رحمه الله تعالى أو طحالا ، وإن أكل لحم غنم أو طير مشوي أو مطبوخ أو قديد حنث ; لأن المأكول لحم مطلق ، ألا ترى أن معنى الغذاء تام فيه ، ويستوي في ذلك الحلال والحرام حتى لو أكل لحم خنزير أو إنسان حنث ; لأنه لا نقصان في معنى اللحمية فيه ، فإن كمال معنى اللحمية بتولده من الدم ، وما يحل وما يحرم من الحيوانات والطيور فيها دم . ( قال ) : وكذلك لو أكل شيئا من الرءوس فإنما على الرأس لحم لا يقصد بأكله سوى أكل اللحم ، بخلاف ما لم يحنث ; لأن فعل الشراء لا يتم به بدون البائع ، وبائع الرأس يسمى رآسا لا لحاما ، فكذلك هو لا يسمى مشتريا للحم بشراء الرأس ، فأما الأكل يتم به وحده ، فيعتبر فيه حقيقة المأكول ، وكذلك إن أكل شيئا من البطون كالكراش والكبد والطحال قيل : هذا بناء على عادة أهل لو حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا الكوفة ، فإنهم يبيعون ذلك مع اللحم فأما في البلاد التي لا يباع مع اللحم عادة ، لا يحنث بكل حال ، وقيل : بل يحنث بكل حال ; لأنه يستعمل استعمال اللحم لاتخاذ المرقة ، واللحم ما يتولد من الدم والكبد ، والطحال عينه دم فمعنى اللحمية فيها أظهر وكذلك إن أكل شحم الظهر فإنه لحم ، إلا أنه سمين ألا ترى أنه يباع مع اللحم ، وأنه يسمى سمين اللحم ، ولا يحنث في شحم البطن والألية ; لأنه ينفي عنه اسم اللحم ، ويقال : إنه شحم ، وليس بلحم ، ولا يستعمل استعمال اللحم في اتخاذ الباحات والألية كذلك ، فإنه ليس بلحم ولا شحم بل له اسم خاص ، وفيه مقصود لا يحصل بغيره ، إلا أن ينوي ذلك فحينئذ تعمل فيه نيته ; لأنه من محتملات لفظه وفيه تشديد عليه .