[ ص: 81 ] كتاب الولاء
( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى : اعلم بأن ولاء نعمة وولاء موالاة ، فولاء النعمة ولاء العتاقة ، وإنما اخترنا هذه العبارة اقتداء بكتاب الله { الولاء نوعان إذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } أي أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق ، والآية في مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه ، وأكثر أصحابنا رضي الله عنهم يقولون : سبب هذا الولاء الإعتاق ولكنه ضعيف ، فإن من ورث قريبه فعتق عليه كان مولى له زيد بن حارثة
، ولا إعتاق هنا والأصح أن سببه العتق على ملكه ; لأن الحكم يضاف إلى سببه . يقال ، ولا يقال : ولاء العتاقة . : ولاء العتاقة ما ثبت بالعقد ، فإن الموالاة عقد يجري بين اثنين والحكم يضاف إلى سببه ، والمطلوب بكل واحد منهما التناصر ، وقد كانوا في الجاهلية يتناصرون بأسباب منها : الحلف والمحالفة . وولاء الموالاة
فالشرع قرر حتى قال صلى الله عليه وسلم { حكم التناصر بالولاء } ، فالمراد بالحليف مولى الموالاة فإنهم كانوا يؤكدون ذلك بالحلف ، ولمعنى التناصر أثبت الشرع مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم ، وبنى على ذلك حكم الإرث ، وفي حكم الإرث تفاوت بين السببين ، أما ثبوت أصل الميراث بالسببين ففي كتاب الله تعالى إشارة إليه ، فقال الله تعالى { حكم التعاقد بالولاء : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } . والمراد الموالاة وفيه تحقيق مقابلة الغنم بالغرم من حيث إنه يعقل جنايته ويرث ماله ، إلا أن أقوى لكونه متفقا عليه ولهذا قلنا الإرث بولاء العتاقة وهو قول مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام رضي الله تعالى عنه ، وكان علي رضي الله عنه يقول : مؤخر عن ذوي الأرحام ; لقوله صلى الله عليه وسلم { ابن مسعود للمعتق في معتقه وإن مات لم يدع وارثا كنت أنت عصبته } ، فقد شرط لتوريثه عدم الوارث وذوو الأرحام من جملة [ ص: 82 ] الورثة ، وقال صلى الله عليه وسلم : { } وقال : صلى الله عليه وسلم { الولاء مشبه بالنسب } ، وما أشبه الشيء لا يزاحمه ولا يقدم عليه ، بل يخلفه عند عدمه ، ولكنا نحتج بما روي { الولاء لحمة كلحمة النسب بنت حمزة رضي الله عنها أعتقت عبدا فمات المعتق وترك بنتا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف المال للبنت ونصفه لبنت حمزة رضي الله عنها ، والباقي بعد نصيب صاحب الفرض للعصبة } ، فتبين بهذا أن المعتق عصبة ورد الباقي على صاحب الفرض عند عدم العصبة مقدم على حق ذوي الأرحام ، ثم لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي على البنت بل جعله للمعتقة ، عرفنا أنها عصبة مقدم على ذوي الأرحام . وفي حديثه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى هذا فإنه قال كنت أنت عصبته ، فتبين بهذا اللفظ أن مراده ولم يدع وارثا هو عصبة . أن
وقوله : { والولاء كالنسب } دليلنا عند التحقيق ; لأن العتق يضاف إلى المعتق بالولاء من حيث إنه سبب لإحيائه ، فإن الحرية حياة والرق تلف حكما ، فكان كالأب الذي هو سبب لإيجاد الولد فتستحق العصوبة بهذه الإضافة ، كما تستحق العصوبة بالأبوة ، فأما قرابة ذوي الأرحام لا يستحق بها الإضافة على كل حال ، والإنسان لا يضاف إلى عمته وخالته حقيقة ، فكان مؤخرا عن الولاء ، وكان الولاء خلفا عن الأبوة في حكم الإضافة فتستحق به العصوبة بهذه الإضافة كما تستحق العصوبة بالأبوة ، ثم تقدم الورثة على ذوي الأرحام ، فأما عندنا ، ولكنه مؤخر على ذوي الأرحام . وعند ولاء الموالاة سبب لاستحقاق الإرث رضي الله عنه ليس بسبب الإرث أصلا ، وهو بناء على أن الشافعي عندنا يكون للموصى له جميع المال وعنده يكون له الثلث ; لأن من أصله أن ما زاد على الثلث حق بيت المال عند عدم الورثة العصبة ، فلا يملك إبطال ذلك الحق بعقده بطريق الوصية أو الموالاة وعندنا المال ملكه وحقه ، وإنما يمتنع تصرفه فيما زاد على الثلث لتعلق حق الورثة والصرف إلى بيت المال عند عدم الوارث ; لأنه لا مستحق له لا لأنه مستحق لبيت المال . فإذا انعدم الوارث كان له أن يوجبه بعقده لمن شاء بطريق الوصية أو الموالاة . من أوصى بجميع ماله فيمن لا وارث له
قال رضي الله عنه : السائبة يضع ماله حيث أحب وتمام هذه المسألة في الوصايا والفرائض إذا عرفنا هذا فنقول : بدأ الكتاب بما رواه عن الصحابة ابن مسعود عمر وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا : الولاء للكبر وهو قول وأسامة بن زيد وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى . وكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول الولاء بمنزلة المال ولسنا نأخذ بهذا وفائدة هذا [ ص: 83 ] الاختلاف أن شريح يكون لابن المعتق دون بنته عندنا ، وعند ميراث المعتق بالولاء بعد المعتق رحمه الله تعالى بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين . شريح
هو يقول : الولاء أثر من آثار الملك ، وكما أن أصل ملك الأب في هذا العبد بعد موته بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين ، فكذلك الولاء الذي هو أثر من آثار الملك فكأنه بالعتق يزول بعض الملك ويبقى بعضه ، فهذا معنى قوله الولاء بمنزلة المال . ولكنه ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } والنسب لا يورث وإنما يورث به . فكذلك الولاء وهذا لأن ثبوت الولاء للمعتق بإحداث قوة المالكية في المعتق ونفي المملوكية فكيف يكون الولاء جزءا من الملك ؟ ومعنى قول الصحابة رضي الله عنهم الولاء للكبر للقرب والكبر بمعنى العظم وبمعنى القرب ، فدخل كل واحد من المعنيين في قوله تعالى { الولاء لحمة كلحمة النسب ومكروا مكرا كبارا } . وتفسيره ، فميراثه لابن المعتق لصلبه دون ابن ابنه ; لأن ابن المعتق لصلبه أقرب إلى المعتق من ابن ابنه ، ولهذا كان أحق بميراثه فكذلك بالإرث بولائه ، وهذا لأن الولاء عينه لم يصر ميراثا بين الابنين حتى يخلف الابن أباه في نصيبه ، ولكنه للأب على حاله ، ألا ترى أن المعتق ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده فكان استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه حقيقة ، ثم يخلفه فيه أقرب عصبته كما يخلفه في ماله لو مات الأب ، فيكون لابنه دون ابن ابنه ، ودون ابنته ; لأن هذا الاستحقاق بطريق العصوبة . والبنت لا تكون عصبة بنفسها إنما تكون عصبة بالابن ، فعند وجوده لا تزاحمه وعند عدمه هي لا تكون عصبة ، وهذا لأن السبب هو النصرة كما بينا . رجل أعتق عبدا ثم مات وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابنا ، ثم مات المعتق
والنصرة لا تحصل بالنساء ، ألا ترى أن النساء لا يدخلن في العاقلة عند حمل أرش الجناية فكذلك في ، وإن كان للمعتق بنت فلها النصف والباقي لابن المعتق لأن الإرث بالولاء طريقه العصوبة ، وحق أصحاب الفرائض مقدم ، فلهذا يعطي نصيب بنت المعتق أولا وكذلك نصيب زوجته إن كانت ، ثم حكم الباقي هنا كحكم جميع المال في المسألة الأولى ، فيكون لابن المعتق دون ابن ابنه فإذا مات هذا الابن بعد ذلك عن ابن ، ثم ماتت بنت المعتق فميراثها لابني المعتق جميعا ; لأنها تابعة لأبيها في الولاء فإن الولاء كالنسب ، والولد منسوب إلى أبيه حقيقة له فكذلك يكون مولى لموالي أبيه فكان ميراثها بهذا الطريق لمعتق الأب يخلفه في ذلك ابنا ابنه كما في ماله لو مات الأب . الإرث بولاء الغير
وكذلك [ ص: 84 ] هذا القول في كل عصبة للمعتق وقد طول رحمه الله ذلك في الأصل ، وحاصله يرجع إلى ما ذكرنا أن أقرب عصبة المعتق عند موت المعتق يخلفه في ميراث المعتق في ذلك الوقت ، وهو معنى قول الصحابة رضي الله عنهم الولاء للكبر ( قال ) : فإن كان لأحد الابنين ابنان وللآخر ابن واحد فالميراث بينهم على عدد رءوسهم ; لأن الجد لو مات الآن كان ميراثه بينهم بالسوية فكذلك ميراث المعتق وكذلك الحكم في محمد ولاء المدبر وميراثه ; لأن المدبر والمكاتب والمستولد استحق ولاءهم لما باشر من السبب ، ولا فرق بين أن يكون نزول العتق بهذا السبب بعد موته أو قبله ، وكذلك في وولاء أم الولد والمكاتب وميراثهما لأنه يستحق الولاء بما أوصى به وفعل وصيته بعد موته كفعله في حياته ، فإن كانت بنت المعتق ماتت عن بنت ثم ماتت ابنتها فليس لابني ابن المعتق من ميراث هذه الأخيرة شيء ; لأن المعتق لو كان حيا لم يرثها لأنه ليس بمولى لها إنما هو مولى لأمها ، وقد بينا أن الولاء كالنسب ، والولد في النسب لا يتبع أمه إذا كان له نسب من جانب الأب فكذلك في الولاء ثم روي عن العبد الموصى بعتقه أو بشرائه وبعتقه بعد موته عمر وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين أنهم قالوا : ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن . وأسامة بن زيد
وعن أنه قال : ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو كاتبن أو أعتق من أعتقن ، وعن إبراهيم ليس للنساء من الولاء شيء إلا ما أعتقن أو كاتبن وهذا الحديث مخالف لما ذكره شريح عن الأعمش إبراهيم عن رحمهم الله تعالى أن الولاء بمنزلة المال ، وبهذه الآثار نأخذ فقد روي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { شريح } . والحديث وإن كان شاذا فقد تأكد بما اشتهر من أقاويل الكبار من الصحابة رضي الله عنهم وبالحديث المشهور الذي روينا { ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو جره ولاء معتق معتقهن بنت حمزة رضي الله عنهما أعتقت مملوكا فمات ، وترك بنتا فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنته النصف وبنت حمزة رضي الله عنهما } النصف ، فبهذا تبين أن المرأة تكون عصبة لمعتقها وهذا ; لأن سبب النسبة للولاء إحداث قوة المالكية بالعتق وقد تحقق ذلك منها كما يتحقق من الرجل ، بخلاف النسب فإن سببه الفراش ، والفراش للرجل على المرأة فلا تكون المرأة صاحبة فراش ; ولأنها أصل في هذا الولاء لمباشرتها سببه وكما أن المرأة في ملك المال تساوي الرجل فكذلك فيما يترتب عليه [ ص: 85 ] بخلاف النسب فإن سببه وهو الفراش يثبت بالنكاح في الأصل ، والمرأة لا تساوي الرجل في ملك النكاح لأنها بصفة الأنوثة مملوكة نكاحا فلا تكون مالكة نكاحا ، وإذا ثبت أنها أصل في هذا الولاء كان ميراث معتقها لها فكذلك ميراث معتق معتقها لأن معتق المعتق ينسب إلى معتقه بالولاء ، وهي مثل الرجل في الولاء الذي هو الأصل المعتق الأول ; ولأن ميراث معتق المعتق يكون لمعتقه بالعصوبة ومعتقه معتقها في هذا الفصل فتخلفه في استحقاق ذلك المال كما تخلفه في استحقاق المال بالعصوبة لو مات الأب ، وعلى هذا مكاتبها ومكاتب مكاتبها ; لأن الكتابة سبب في استحقاق الولاية كالعتق وعلى هذا جر ولاء معتق معتقها لأن سببه العتق على ما نبينه فتستوي هي بالرجل في استحقاق ذلك أن