المبحث الثاني
مبدأ التكافل الاجتماعـي
إن أهم ركيزة في التكافل الاجتماعي هي الإخاء، ذلك أن الإخاء له معنى أعمق وأبعد مدى من التكافل بين الفرد والمجتمع، الإخاء لا يعتمد على تبادل المنافع، ولا على الإعطاء مقابل الأخذ، وإنما هو معنى إنساني روحي، ينبع من جوهر الإنسان الأصيل.. الإخاء يقتضي من الأخ أن يعطي أخاه وإن لم يأخذ منه؛ وأن يساعد أخاه وإن لم يكن محتاجا إليه؛ وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل قد يؤثره على نفسه.. والإخاء الذي جاء به الإسلام نوعان: أو درجتان، إخاء أساسه الاشتراك في الإنسانية، وإخاء أساسه الاشتراك في العقيدة.
فالناس، وإن اختلفت ألسنتهم وألوانهم وتباينت طبقاتهم ودرجاتهم فرع لأصل واحد، وأبناء لأب واحد، ولذلك يناديهم ربهم: ( يا بني آدم خذوا زينتكم ) (الأعراف:31)، فبينهم جميعا رحمة واشجة وأخوة جامعة.
وقد أكد الله في كتابه العزيز حق هذه الرحم الإنسانية، وتلك الأخوة البشرية، فقال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) (النساء:1)، فإن كانت الأخوة هي عنوان العلاقة بين الإنسان والإنسان فإن لهذه الأخوة ثمرات ومقتضيات.. [ ص: 43 ]
ومن مقتضيات هذه الأخوة أن لا يعيش الإنسان مستأثرا بالخير والنعمة دون أخيه الإنسان. وهنا أشير إلى قصة وقعت في الصدر الأول من الإسلام، وهي أنه: "لما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد [1] لقيه ابن الدغنة [2] ، وهو سيد القارة [3] ، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض، وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج، فإنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلادك.." [4] .
وفي مـوافقة وصـف ابن الدغنـة لأبي بـكر بمـثل ما وصفـت بـه خديـجـة النبي صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال.
إن من مزايا الإسلام ومما سبق إليه: اشتماله على تشريع يحقق العدالة بين الناس ويكفل حياة العاجـزين منهـم عن الكسـب والمقـصرين عن [ ص: 44 ] إدراك ما يحتاجون إليه من موارد العيش ومن تصيبهم أحداث الزمان بكوارث، ولم يترك الإسلام هذا الجانب من الحياة الإنسانية لدوافع الأخلاق وحدها ولا لوسائل الإحسان الفردي، ولكن شرع له قواعد إلزامية، وأوجب على الدولة واجبات مالية لذلك، حدد مواردها ومصارفها. فكيف يضمن المجتمع الإسلامي هذا التكافل؟
إن الإسلام وضع لذلك وسائل متدرجة، ورتبها ليصار فيها من رتبة إلى أخرى.
- الرتبة الأولى، والأصل الأساس، أن يسد الفرد حاجته بنفسه عن طريق العمل، الذي حض عليه القرآن والسنة كل فرد قادر عليه، فالكد لكسب الرزق عبادة في الإسلام.
- والرتبة الثانية، هي أن تساعد الدولة القادر على العمل على توفير الأسباب له ليستثمر ويكسب في كل مجال، فإذا كان لا يملك رأس مال واحتاج أن تقرضه الدولة وجب عليها ذلك.
- والرتبة الثالثة، إذا عجـز الفرد عن العمـل بسبب مرض أو شيخوخة أو عجز بدني، أو إذا لم يجد أمامه منافذ عمل مع القدرة عليه فإنه يصبح له في جميع هذه الحالات حق الإنفاق عليه من بيت المال، إذا لم يوجد في أسرته من هو ملزم بالإنفاق عليه، كالولد على أبيه.
وقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المال لمجموعة من شرائح المجتمع مبالغ مالية، من بينهم: العاجزون عن العمل والعاجزون عن تأدية ديونهم وقت استحقاقها. [ ص: 45 ]
- أما الرتبة الرابعة، فهي التي وضع فيها الإسلام فصيلتي الفقراء والمساكين الذين لا يملكون ولا يجدون ما ينفقون [5] . وهاتان الفصيلتان تتكفل بالإنفاق عليهما الزكاة المفروضة على الأغنياء كل سنة، فالفقراء والمسـاكين هم من بين الأصناف الثمانية، التي نص القرآن على صرف مدخول الزكاة عليها، وإذا لم يوف مدخول الزكاة السنوي بسد حاجة جميع الفقراء والمساكين في المجتمع الإسـلامي صرف بيت المال على من لم يصرف عليه من الزكاة، وفي حالة ما إذا لم يوجد ما يصرف على المحتاجين، لا من بيت المال ولا من الزكاة، فإن على الدولة أن تفرض على الأغنياء مساهمات إضافية لسد العجز والتغلب على الفاقة والحاجة، وهذا التنظيم الدقيق لمطاردة العوز يستهدف رفع الخصاص والحاجة عن مكونات المجتمع الإسلامي بمن فيهم غير المسلمين.
فالإسلام لا يفرق في توفير الحقوق الاجتماعية بين مسلم وغيره.
ولا غرابة في ذلك، فدين الرحمة لم يستثن من نظام التكافل حتى الحيوان، فبالأحرى الإنسـان غير المسـلم، فما أكثر ما طفحت به أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من ترغيب في إطعام الحيوان والرفق به.
ففي الحديث: ( دخلت امرأة النار في هرة، ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت ) [6] ، قال الزهري: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل. [ ص: 46 ]
في هذا الحديث المؤاخذة بالصغائر.. والمصرح به في الحديث أنها عذبت بسبب الهرة وهو كبيرة؛ لأنها ربطتها وأصرت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة [7] .. وفي الحديث أيضا دليل على تحريم قتل الهرة، وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب، وأما دخولها النار فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة وإنما دخلت النار بسبب الهرة.. ويجوز أنها كانت كافرة عذبت بسبب كفرها وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر، والصواب أنها كانت مسلمة كما تقدم وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث.. وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار [8] .
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له"، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: "نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر ) [9] . [ ص: 47 ]
والذي يتأمل الإسلام وأخلاقياته، لتقوية رابطة المجتمع على أساس الأخوة، يستوقفه لا محالة ما تطفح به من خلق الفرص لتمتينها بين أعضاء الجماعة وتحطيم الفوارق والتباعدات بينهم، فتشريع الصلاة في الجماعة خمس مرات في اليوم، وإقامة صلاة العيدين في الجماعة أيضا، واجتماع الوقوف بعرفة في الحج، وأمر المسلم بالسلام في الطريق على المارة، من يعرف منهم ومن لا يعرف.
عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال: ( تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) [10] ، قال العلماء: إنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر إلى الكف عن إيذاء المسلمين [11] ، وبمصافحة المسلمين بعضهم بعضا لتبادل تهانئ الأعياد، وحثه المسلم على عيادة المرضى الأقارب والأباعد، وتشييع جنازة الأموات من الأقارب والأجانب، والإلحاح على معاملة الجار كمعاملة ذي القربى: "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، فذكر: عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم" [12] . [ ص: 48 ]
في هذا الحديث ندب إلى إحسان معاملة المسلمين بعضهم لبعض، فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس، فربما سألوه عن بعض شأنهم ووجه طرقهم فيجب أن يتلقاهم بالجميل من الكلام، ولا يتلقاهم بالضجر وخشونة اللفظ، وهو من جملة كف الأذى، وله شواهد في الصحيحين: ( إياكم والجلوس على الطرقات ) فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ( فإذا أتيتم إلى المجالس، فأعطوا الطريق حقها ) قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ( غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر ) [13] .. تبين من سياق الحديث أن النهي عن ذلك للتنزيه لئلا يضعف الجالس عن أداء الحق الذي عليه، وأشار بغض البصر إلى السلامة من التعرض للفتنة بمن يمر من النساء وغيرهن، وبكف الأذى إلى السلامة من الاحتقار والغيبة ونحوها، وبرد السلام إلى إكرام المار، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى استعمال جميع ما يشرع وترك جميع ما لا يشرع، وفيه حجة لمن يقول: إن سد الذرائع بطريق الأولى لا على الحتم؛ لأنه نهى أولا عن الجلوس حسما للمادة، فلما قالوا: ما لنا منها بد، ذكر لهم المقاصد الأصلية للمنع، فعرف أن النهي الأول للإرشاد إلى الأصلح، ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة؛ لندبه أولا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق [14] ... ( ما زال جبريل [ ص: 49 ] يوصـيني بالجار، حتى ظـننت أنه سـيورثه ) [15] .. ( يا نسـاء المسـلمات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة ) [16] .
وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله، لا إلى حقيقة الفرسن؛ لأنه لم تجر العادة بإهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله، بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلا، فهو خير من العدم.. وذكر الفرسن على سبيل المبالغة، ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع للمهدى إليها، وأنها لا تحتقر ما يهدى إليها ولو كان قليلا.. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير؛ لأن الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيرا.. وفيه استحباب المودة وإسقاط التكلف [17] .
وعن السـيدة عائشـة، رضي الله عنها: قالت: "قلت: يا رسـول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: ( إلى أقربهما منك بابا ) [18] .. والحكمة فيه أن الأقرب يرى ما يـدخل بيت جاره من هـدية وغيرها فيتشـوق لها بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجارة لما يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة [19] . [ ص: 50 ]
وحث الإسلام على التعاطف والتراحم والتهادي بين الأصدقاء، وأتى بالتشريعات العديدة، التي نظمت علاقة الأسرة على أساس التواصل المحكم.
ومن روائع الإسلام، أنه لم يجعل دائرة هذا الضمان مقفلة على المسلمين وحدهم دون غيرهم من أهل الملل الأخرى. هذا مع أن الدولة الإسـلامية، التي وفرت هذا الضمان ورعته لم تكن دولة قومية ولا إقليمية، فهي دولة أسـاسها الإسـلام. وبـرغم هذا أبى عدل الإسـلام -وهو عدل الله تعالى- إلا أن تكون دائرة الضمان الاجتماعي في دولته إنسانية عامة، تسع كل من يستظل بلواء الإسلام ويعيش في كنف مجتمعه، مسلما كان أو غير مسلم.
كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة [20] والي البصرة من قبله يوصيه ببعض الواجبات، التي يجب أن يرعاها في ولايته.. وقد قرئ الكتاب على جمهور الناس بالبصرة لأهميته، وكان مما جاء فيه:
"وانظر من قبلك من أهل الذمة من قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه".
"وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس. فقال: "ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك [ ص: 51 ] ثم ضيعناك في كبرك"! ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه".. ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير، ضرير البصر! فضرب عمر عضده من خلفه، وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي.
قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟
قال: أسأل الجزية والحاجة والسن.
قال راوي الخبر ( أبو بكرة [21] ): فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله، فرضـخ له بشـيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هـذا وضرباءه (أمثـاله)، فـو الله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم [22] .
هـذه قصـة مشهـورة متداولة في كتب الفقـهاء والمحدثـين.. وكثيرا ما تكون شهرة الواقعـة حجابا دون الوقوف عندها وتأمل ما فيها من التوجيهات والأفكار. [ ص: 52 ]
والذي يتأمل هذه القصة يجدها واضحة المغزى، ناطقة بالحق، نابضة بالعدل، دالة على كثير من المبادئ الاقتصادية والاجتماعية المهمة. وحسبنا أن نسجل منها:
1- إن مد الأيدي للناس بالسؤال أمر كان مستنكرا وغريبا في المجتمع الإسلامي في عهد عمر رضي الله عنه بحيث استلفت صنيع هذا الرجل نظره.
2- إن كفالة الدولة الإسلامية لرعاياها ليست مقصورة على المسلمين، بل تشمل جميع أهل الذمة ولو كانوا يهودا.
3- إن عمر رضي الله عنه لم يكتف بما أعطاه من ماله الخاص، ولم يأمر له بمنحة عاجلة، ثم يدعه لعجز الشيخوخة، وقسوة الفقر، ولكنه أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
ومعنى هذا أنه فرض له مساعدة اجتماعية دورية تصلحه وتكفيه.
4- إن عمر رضي الله عنه لم يجعل هذه المساعدة استثناء خاصا بهذا الشيخ، ولكنه قررها مبـدأ عاما يشمله ويشمل كل من يشابهه من أهل الحاجة من غير المسلمين.
5 - إن عمر رضي الله عنه لم يفعل ذلك ابتداعا ولا ابتكارا من عند نفسه، ولكنه رد ذلك إلى كتاب الله، الذي أوجب الصدقات على الفقراء والمساكين، وهذا وأمثاله منهم. [ ص: 53 ]
6- إن المحدثين والمؤرخين لم ينقلوا أن أحدا من الصحابة أنكر على عمر، رضي الله عنه ، صنيعه هذا، مما يدل على موافقتهم عليه، وهذا يسميه الفقهاء "الإجماع السكوتي".
7- إن كل حـق يقابله واجب، ومن حق الحكومة أن تفرض الضرائب العادلة، ومن واجبها أن ترعى الضعفاء وذوي الحاجـة من الرعية. أما أن تأخذ الحكومة من المواطن عند قدرته، وتهمله إذا عجز، فليس من العدل والإنصاف.
8- إن الدولة الإسـلامية لا تنتظر حتى يتقدم إليها الضعفاء وذوو الحاجة بطلبات للمساعدة الاجتماعية، بل عليها أن تطلبهم وتبحث عنهم لتسد حاجتهم، وإن لم يسألوا أو يطلبوا. ولهذا قال عمر، رضي الله عنه ، لخازنه: "انظر هذا وضرباءه" [23] . [ ص: 54 ]