المبحث الأول
حضارة التوحيد
إن عقيدة التوحيد، التي دان بها المسلمون منذ قيام الحياة على الأرض، أحد الأسباب الرئيسة في قيام الحضارة الإسلامية، التي هـي بالدرجة الأولى إنسانية النـزعة قبل أن تكون إسلامية العقيدة.
وعقيدة التوحيد هـي عقيدة التسليم لله الواحد الأحـد الفرد الصمد،
قال تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163) .
والعقيدة الصحيحة تبعث في نفوس أصحابها «التصور الحقيقي لقيم الأشياء، فلا ينطلي عليها غبش الدعايات وبهرج الشبهات، فإن من يعرف ربه يعرف قيمة نفسه، ويعرف قيمة إيمانه، ويعلم تسخير العوالم له، ويعلم كذلك أن الناس كلهم عبيد الله، وكلهم من خيره يرزقون» [1] - العقيدة الصحيحة وطمأنينة القلب
تبعث العقيدة الصحيحة في نفوس أصحابها طمأنينة القلب وصدق الهداية وراحة البال،
قال تعالى: ( ... ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ) (التغابن:11) ،
فالاعتقاد في الله يكسب الإنسان الثقة بربه والرجاء فيه وتسليم العبودية له؛ لأن الإيمان نور وفرقان يهدي قلب المؤمن إلى الحقيقة ويكسبه [ ص: 30 ] فراسة اليقين والرضا بالمقدور، وصدق رسول الله وهو يعلم أصحابه كيفية الاعتقاد الصحيح: ( احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) [2] وتتضح هـذه الحقيقة حينما نلاحظ «أن مفهوم الإيمان يتضمن العلم اليقيني والاعتقاد الراسخ المقرون بالإقرار والإذعان، وأن الإيمان يجب أن يتناول كل جزء من أجزاء ما يجب الإيمان به، مما هـو ثابت بيقين، فمن تردد أو شك ببعض أو ثبت منها بيقين، أو اكتفى باعتقاد أنه الأصوب والأرجح لم يصح إيمانه، ولن تسلم عقيدته، وبهذا نلاحظ أن الإيمان وحدة لا تتجزأ، ولا تقبل التجزئة، فمن آمن ببعض أركان الإيمان وكفر ببعضها لم يكن مؤمنا، إذ الجزء الذي كفر به يعود أثره على الجزء الذي آمن به فينقضه» [3] - قواعد العقيدة في الإيمان
وقد تحدث الإمام الغزالي ، رحمه الله، عن قواعد العقائد في الإيمان والإسلام، وما بينهما من الاتصال، في مباحث تفيد العاقل في معرفة طريق الحق.. وجعلها درجات، وتحدث عن مقام كل درجة والحكم الشرعي المخصوص بهذه الدرجات، وختم ذلك بقوله: [ ص: 31 ] «اشتهر عن السلف قولهم: الإيمان عقد وقول وعـمل، فما معناه؟ قلنا: لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان؛ لأنه مكمل له ومتمم، كما يقال الرأس واليدان من الإنسان، ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنسانا بعدم الرأس، ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد، وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة، وإن كانت لا تبطل بفقدها، فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه، وبقية الطاعات كالأطراف بعضها أعلى من بعض، وقد ( قال صلى الله عليه وسلم : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) [4] ، فإن قلت: فقد اتفق السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، فأقول: السـلف هـم الشهود العدول، وما لأحد عن قولهم عدول، فما ذكروه حق وإنما الشأن في فهمه» [5] إن صحة عقيدة الإسلام تبعث في قلوب المؤمنين أنوارا ومدارج عليا من الفضيلة والتقوى، تكسبهم قوة ومنعة تجاه كل تيار فاسد يتنافى والقيم المثلى، التي تحقق كل خير للبشرية جمعاء. لذلك فالعقيدة أس ومقوم رفيع باعث على ثبوت وقيام الحضارة الإسلامية على مر العصور والدهور، فصفقة المؤمن المربحة هـي الإيمان بالله واليوم الآخر وإحقاق الحق وإزهاق الباطل،
ومنه قوله تعالى: ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ... ) (المجادلة:22) ،
وقوله تعالى: ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ... ) (المائدة:81) . [ ص: 32 ] لقد بين سبحانه أن الإيمان له لوازمه، وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده، ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله [6] ، ومن هـذا الباب قوله: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن.. قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوايقه ) [7] ، وقوله: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ) [8] ، وقوله: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكـون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) [9] ، وقولـه: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) [10] ومن خلال هـذه الآيات والأحاديث النبوية الشريفة يتبين أن توحيد العبودية لله وإخلاص الألوهية له يخرج أجيالا من دعاة الخير وبناة الصلاح في الأرض، الذين استطاعوا ومنذ فجر الإسلام أن يبنوا حضارة إسلامية قوامها عقيدة صحيحة، أكسبت الإنسان إرادة قوية في بناء الخير وإسعاد البشرية في شتى المجالات العمرانية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ لأن الإنسان البناء لفعل الخيرات يؤمن إيمانا مطلقا أن ذلك سيحقق له عند الله خيرا وسعادة خالدة وثوابا حسنا،
يقول تعالى: ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ... ) (النحل:97) ، ويقول: [ ص: 33 ] ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) (الزلزلة:7-8) ،
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) (الحج:77) .
لذلك ففعل الخيرات ونشر معانيها بين الناس هـو الأمر المطلوب في أسس الحضارة الإسلامية كما هـو مقرر في قوله تعـالى: ( ... ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) (النساء:66) .
والمقصود بـ ( ما يوعظون به ) كل أسباب بناء العمارة والاستخلاف على الوجه الحق، الذي جاءت موجهاته وتوجيهاته وأنواره مبينة ومفصلة في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة.. غير أنه «كثـيرا ما يخفى على الناس ما في الأعمال الإنسانية من نتائج خير أو شر، فتختلف أنظارهم فيها، وتختلف أحكامهم بالنسبة إليها، إلا أن الشريعة الإسـلامية لـما كانت منـزلة من لدن حكيم عليم بما كان وما هـو كائن وما سيكون، وعليم بخصائص الأنفس وبما يصلح الناس، وبما يفسدهم، وبما يكون لهم أنفع وأصلح وأكمل، كانت أحكامها مطابقة لما عليه أحوال هـذا القسم مطابقة تامة في كل مسألة من مسائله وكل جزئية من جزئياته» [11] وقد بينت السنة النبوية المطهرة وأوضحت للناس الحدود الفاصلة بين الخـير والشر، ( يقول صلى الله عليه وسلم : الحلال بين والحـرام بين وبينهما مشبهات [ ص: 34 ] لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقـع في الشبهات كراع يرعى حـول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسـد الجسد كله، ألا وهي القلب ) [12] نخلص إلى القول: إن محور العقيدة هـو منطلق الحرية الإنسانية في التصديق بالذات الإلهية وإخلاص الربوبية والألوهية لها؛ حرية في التصور وفي الاعتقاد وفي العمل، تخلق تنافسا وسعيا في الأرض بكل اطمئنان، وتجعل من الإنسان خلقا منتجا ومبدعا، يسعى إلى إرضاء مولاه وخالقه بكل ما أوتي من وسائل الفضيلة والتقوى، متخلصا من أدران الوثنية المادية والمعنوية، خوفه من الله وإلى الله.
فالتوحيد هـو غاية الخلافة والعمارة والعبادة في الأرض.. وفي الخلافة والعمارة والعبادة توازن بين المادة والروح،
قال تعالى: ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) (القصص:77) . [ ص: 35 ]