خامسا: عامل العقيدة
إذا أمكن إقناع إنسان بعقيدة ما، فإنه سينزل عند متطلباتها، دون معارضة قوية، من هـنا يعتبر (البعض ) عامل العقيدة مهما وفاعلا في التحضر؛ لأن الإنسان يتأثر تأثيرا كبيرا بدينه ومعتقده.
وحين فاخر أهل قريش بخدماتهم للحجاج، رد الله عليهم ذلك بأنه أمر لا يمكن مقارنته بصحة وسلامة الاعتقاد،
فقال تعالى: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هـم الفائزون ) (التوبة:19-20) .
فتغير عقيدة الإنسان يعقبه تغير تام في نظرته للحياة وسلوكه كذلك، من هـنا لا يجادل أحد في عامل العقيدة، وأمتنا العربية خير دليل، فقد انتقلت من الانقسام إلى الوحدة، ومن حرب (داحس والغبراء ) إلى مصارعة أكبر إمبراطوريتين (الفارسية والبيزنطية ) ، ولو بقيت على إيمانها بالأصنام لعاشت خارج التاريخ، كما تعيش أمم كثيرة.
وفي هـذا الميدان وجدت الناقد البريطاني (كولن ولسن ) يقول [1] : [ ص: 130 ]
إن الإنسان ليس كاملا بدون دين، فإذا أريد للحياة أن تتقدم خطوات أسمى من (القرد) ، ومن الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق تطوير قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال يتمثل في (الشهية الدينية) . إن الدين مقياس البطولة، ورمز حاجة الإنسان في الكفاح من أجل الفهم، وفشل الدين والحروب العالمية أمران متلازمان. ثم يصف (الدين) بأنه العمود الفقري للحضارة، معتبرا الحضارة السليمة، ما كانت تؤمن بالدين.
العقيدة أو الدين هـو ما يميز الإنسان عن الحيوان، وكافة الحضارات والإمبراطوريات كان لها دين تعتز به، وتستمد التشريع منه، وتاريخ الإنسان خير دليل. ولم يكن (الإلحاد ) معتقدا رسميا، إلا في العصر الحاضر.
الفيلسوف البريطاني (برناردشو ) يذهب بعيدا، فيقول [2] : (كنت أعرف دائما أن (الحضارة) تحتاج إلى دين، كما أن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك ) .
ثم يزيد قائلا [3] : ( إن الحضارة تسقط في اللحظة التي تكون قوة الإنسان أشد وأكبر من قوة الدين ) .
قيمة العقيدة أنها منظم وضابط لسلوك الإنسان، فإذا (انفلت ) [ ص: 131 ] الإنـسـان، بحيث لم يعـد يضبـطه ديـن ولا عـقـيدة، فسـوف يفـعـل مـا يحلو له، ومن هـنا قد يتحول إلى عنصر هـدم وفساد.. فالانضباط الديني، يشكل صمام أمان، لا تفرط فيه أمة عاقلة.
لكن من الحق أن نقول: إن العقائد لا تعمل بنفسها، ولو عملت بنفسها، لوجدنا أتباع المعتقد الواحد على حالة واحدة، وحضارة متقاربة، وهذا ما لا نجده، فالإنكليز والألمان والأمريكان، نصارى بروتستانت، وكثير من الأفارقة، وكذلك نصارى الهند وسيرلانكا مثلا، فهل جعلت العقيدة الواحدة جماهيرها في مستوى واحد؟
ويهود الفلاشا ويهود اليمن وأمريكا ، هـل جعلت العقيدة الواحدة منهم جميعا على مستوى حضاري واحد؟
إن العقيدة تعمل من خلال الإنسان وثقافته، وهو قد يجعل منها قوة دافعة محركة، أو باردة لا حياة فيها، وذلك بحسب وعيه وموقعه الحضاري، وثقافته، وحسن إدراكه.
مرة أخرى، العقيدة عامل مهم كبير، متى كان صاحبها فاعلا واعيا، وهي ذات أثـر ضعيف جدا حين تكون خاملة، أو يكون صاحبها متخلفا.
لكنها يمكن عدها من أقوى العوامل المؤثرة، إذا أحسن تحريك الإنسان من خلالها. [ ص: 132 ]
ويمكن أن أشير إلى ثلاث مراحل متميزة، في حياة أمتنا:
أ- حالها قبل انتشار الإسلام.
ب- حالها في القرون الأولى لانتشار الإسلام، وصدق الالتزام به.
جـ- حالها بعد التكاسل في الالتزام بالإسلام.