ثالثـا: العامل الاقتصادي
يعتقد الماركسيون أن العامل الاقتصادي، هـو المؤثر والموجه للأحداث، ومنها التحضر، فكل العلاقات الاجتماعية والتشريعات والنظم والدين، كلها تتأثر بالعامل الاقتصادي، نشوءا وتطورا، وهو (الباعث ) لكل مكونات المجتمع، الفكرية والمادية، وكل عامل آخر فهو ثانوي.
فالعلاقات الاقتصادية التي تتمثل بها أساليب الإنتاج هـي الأساس، وكل تغير في أشكال الحضارة فهو عائد في أصله إلى تبدل في وسائل الإنتاج، وليس لشيء آخر.
وقد كتب ( ماركس ) رسالة إلى (ف.أنتكوف ) عام 1846م تصور خلاصة فكره، وما توصل إليه بشأن الإنسان وحريته واختياره، لقوى الإنتاج فقال [1] : (... ما المجتمع أيا كان شكله؟ إنه وليد النشاط المتبادل الذي يقوم به الناس ) .
وهل لهم حرية اختيار هـذا الشكل أو ذاك من المجتمع لأنفسهم؟ لا، بكل تأكيد.. إذا فرضت وجود حالة معينة من التطور في (قوى الإنتاج ) كان لديك شكل معين من أشكال التجارة والاستهلاك، يطابقه نظام اجتماعي، وتنظيم للأسرة والطبقات، وبعبارة موجزة، كان لديك مجتمع مدني، يتفق وهذا الشكل... ومن العبث أن نضيف أن الناس غير أحرار في اختيار قواهم (الإنتاجية ) وهي الأساس [ ص: 126 ] الذي يقوم عليه (تاريخهم ) كله؛ لأن كل قوة إنتاجية هـي قوة مكتسبة، أي هـي ثمرة فعل ونشاط سابق....
إن وسائل الإنتاج هـي العامل المؤثر، وإليها -تحديدا - تعود كافة التغيرات من اجتماعية وسياسية وتشريعية وفكرية. وفيها ينبغي البحث [2] (لا في أدمغة البشر، ولا في تحسن إدراك الإنسان للحق الأزلي وللعدل، بل في (أساليب الإنتاج) والتبادل، يجب أن يبحث عنها في اقتصاديات كل عصر، لا في فلسفته ) .
وبقراءة هـذا (النص ) يمكن أن يخرج القارئ بما يلي:
أ- إن المجتمع البشري، يرسم وجهته ويشكله النشاط الاقتصادي.
ب- ليس للإنسان حرية اختيار شكل مجتمعه، بل ذلك متروك لقوى الإنتاج، فهي وحدها تستطيع ذلك.
جـ- كافة الأنظمة الاجتماعية، ومنها الدين، ونظام الأسرة، ونظام الطبقات، والنظام المدني والسياسي، كلها لا يختارها الإنسان، وإنما تصوغها (قوى الإنتاج ) .
د- قوى الإنتاج إله جديد جبار!!!
هـ- قوى الإنتاج لا يختارها الإنسان بنفسه؛ لأنه لا يملك ذلك، إذ هـي ثمرة نشاط سابق. لكنه نشاط إنساني، فلم الهرب من ذلك؟ [ ص: 127 ]
والسؤال: إذا كان الإنسـان لا يملك وسائل الإنتاج ولا يخـتارها، فما دور الإنسان في رسم صورة مجتمعه؟ وما حريته في ذلك؟
يجيب ( ماركس ) [3] : (في الإنتاج الاجتماعي، الذي يزاوله الناس، نراهم يقيمون علاقات محدودة، لا غنى عنها، وهي مستقلة عن إراداتهم، وعلاقات الإنتاج هـنا تطابق مرحلة محددة من تطور قواهم المادية في الإنتاج، والمجموع الكلي لهذه العلاقات يؤلف البناء الاقتصادي للمجتمع، وهو الأساس الحقيقي الذي تقوم عليه النظم القانونية والسياسية، والتي تطابقها أشكال محددة من الشعور الاجتماعي. فأسلوب الإنتاج في الحياة المادية، يعين الصفة العامة للعمليات الاجتماعية والسياسية والروحية في الحياة، وليس شعورهم هـو الذي يعين وجودهم، بل إن وجودهم هـو الذي يعين شعورهم.. ) .
ألا تشبه هـذه العلاقات (الجدلية ) علاقة البيضة والدجاجة، وأيهما الأصل، وأيهما الفرع؟ إذا كانت (وسائل الإنتاج ) هـي التي تصوغ نظم المجتمع كافة ومنها (الدين ) ، فكيف نفسر وجود أكثر من دين في كل بلد، بل داخل الأسرة الواحدة؟
في الهند وحدها يوجد أكثر من ثلاثمائة دين، وإله الخير في الشمال، هـو إله الشر في الجنوب -كما تقول إحصائية لهيئة الأمم- ووسائل الإنتاج واحدة؟ [ ص: 128 ]
أليس من الأنسب أن نقول بأن العامل الاقتصادي مهم جدا في التحضر، دون أن نجعل منه إلها، يملي على البشر ما يريد، في جبرية مطلقة لا مثيل لها؟