ب- أثر القيم التربوية المادية في بناء المجتمع والحضارة
إن ذلك التفكك الذي عاناه، ويعانيه الإنسان الغربي على مستوى نفسه التي أرهقها الشرود عن الصراط المستقيم، كان لا بد أن ينعكس على جهاز المجتمع أو التنظيم الاجتماعي بالتهلهل والتحلل، حيث إن المجتمع لا يعدو أن يكون أشتاتا من النـاس الذين لا تجمعهم وحدة، ولا ينتظم عقدهم خيط واحد، إن كل الأمراض والنواقص النفسية من انحلال وتهالك على الملذات المحرمة والحسد، وسوداوية النفس، تنتهي بخنق المجتمع وامتصاص طاقاته، ووقف تطلعاته نحو الأفضل.
لقد ضربت النظرة المادية نفس الإنسان الغربي وتركتها صفصفا مهجورة من قيم الخير والاستقامة، وخربت بذلك المجتمع وقوضت دعائمه وجففت منابع الخير والصلاح فيه، فقد ظهر بعد قرن كامل من الصراع المرير، أن الإنسان بطبيعته عاجز تماما عن إيجاد القيم المجردة عن المصالح الذاتية، لأن حبه لمصلحته حجب عنه حقيقة نفسه، وحال [ ص: 139 ] بينه وبين فهمها في شموليتها، وبالتالي بينه وبين وضع نظام القيم التي تستجيب لتلك الشمولية. وكان من نتائج الفرويدية تقويض دعائم الأسرة ونسق ضوابطها، بسبب الفوضى الجنسية التي طبعت علاقات الأفراد، ومن خلال الانحرافات التي أغرقت الناس في مستنقع الأمراض الجنسية، وألقت بهم في جحيم من القلق والأمراض النفسية لا يطاق، أما البرجماتية فقد كان من نتائجها حدوث خلل في الحياة الاجتماعية، وهو أمر مترتب لا محالة على نظرتها التي تحقق المصلحة دون التفات إلى القيم الروحية ومبادئ الحق والعدل [1]
وهكذا فإن النظرة المادية، قد فجرت في الإنسان طاقاته في إنتاج وتكديس المنتجات المادية، في نفس الوقت الذي ألقته في أتون التنافس المحموم على تلك المنتجات، فجعلت بعض الناس فريسة ونهبا لبعضهم الآخر، ينهشه بغير رحمة، ويحوله من شريـك إلـى أداة [2]
وليس في هذه النتيجة تناقض مع ما قلناه سابقا من أن القيم المادية كفيلة بامتصاص طاقات الإنسان وتوهين قواه، لأن العبرة بالمآل، فالكارثة وإن لم تحل بالشكل النهائي، فإنها ستحيق بالمجتمع الغربي ولو بعد حين، وفقا لسنن الله في النفس والمجتمع، قال تعـالى: ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) (الكهف : 85) .. فالبناء الاجتماعي الغربي وإن كان يبدو قائما، محتفظا ببعض بريقه الذي يسلب الأعين المسطحة، فهو يحتوي في [ ص: 140 ] جوفه على جراثيم الموت والانهيار.
ونخلص من هذا الحديث عن أثر القيم التربوية المادية في المجتمع، إلى الحديث عن أثرها في البناء الحضاري.. فكما سبقت الإشارة، فإن تلك الشروخ التي أحدثتها أمراض النفس في الكيان الاجتماعي لن يظل أثرها محصورا في نطاق معين، بل إنها لتبتلع كل العناصر والمقومات التي تقوم عليها الحضارة. ولقد أجمع عقلاء الغرب على أن الذي سيذهب بالحضارة إلى حتفها هو العامل المادي، الذي هو أبعد ما يكون وحده كافيا لتفسير الوجود الإنساني، وتقويم نجاح المسيرة الإنسانية أو إخفاقها.
وبعد، فإن بعض هؤلاء العقلاء قد أدركوا بنفاذ، بعد التأمل في تجربة الغرب المريرة، أنها لم تفصل على حجم الإنسان ولم تراع أشواقه وتطلعاته، إنها انطلقت منذ بدايتها انطلاقة خاطئة، زجت بها في ظلمات، بعضها فوق بعض، فكانت النتيجة هي الحيرة والتمزق، والارتداد إلى أسفل سافلين، ليصبح الإنسان مجردا من إنسانيته،ومن التكريم الذي أسبغه الله تعالى عليه. [ ص: 141 ]