القيم التربوية عند أهل السنة والجماعة
ارتباط الأخلاق بالشرع، وبالتالي فهي ليست نسبية
رأينا من خلال المحور السابق، أن القيم التربوية الإسلامية كانت هي السائدة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الميامين رضوان الله عليهم أجمعين. ولم تزل تلك القيم تنشر ظلالها الوارفة على مجتمع المسلمين، بقدر استمدادهم منها وربط نفوسهم بها.. وواضح أن السر من وراء ذلك التجانس الكبير، الذي عرفته الحياة في ظل القيم الإسلامية، يكمن في وحدة وثبات المصدر الذي كان يستقي منه أفراد المجتمع الإسلامي.
ولعل القضية التي سأناقشها في هذا المحور، ستلقي بعض الضوء على ذلك السر.. وهذه القضية تتعلق بالأخلاق أو القيم التربوية عند أهل السنة والجماعة.. على أي أساس تقوم؟... وسأقدم بين يدي هذه المسألة الأسئلة التالية:
هل المعول في القيم التربوية على العقل؟ أم الدين؟ وهل العقل الفردي أو ما يسمى بالعقل الجمعي، بقادرين على بناء نسق أخلاقي يطبعه التوازن والشمول ويلائم فطرة الإنسان، وينظم حياة المجتمع البشري؟ بتعبير آخر: هل من المقبول في ضوء مصلحة الفرد والجماعة البشرية. أن تكون القيم التربوية نسبية خاضعة لاختلاف المجتمعات [ ص: 80 ] وما يلابسها من أوضاع وأحوال؟ أم أن نسقا واحدا من القيم هو الصالح للإنسان في كل الأماكن والعصور، وأن على الإنسان، حيث كان وفي أي عصر كان، أن يضبط سلوكه ويكيف حركته وفقا لذلك النسق من القيم؟
هل المعول على العقل في بناء الأخلاق؟ كثير من الفلاسفة قد أجابوا بالإيجاب على هذا السؤال... وأحسنهم خطأ وأقربهم إلى الصواب، أو بالأحرى أبعدهم عن الشطط والمبالغة، من قال بالالتزام بالأخلاق الإنسانية. ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي "برغسون" (1941) [1]
ولكننا نسائل "برغسون" عن الجهة التي سيوكل إليها أمر وضع هذا النظام الأخلاقي، الذي سيطلب من الإنسانية السير على منواله؟ لا شك أن جوابه لن يعدو أن يشير إلى مجموعة كبرى من المفكرين، تجتمع على صعيد واحد، وتتداول في شئون الأخلاق التي تهم البشرية.. وهل خليط من العقول الصادرة من كل حدب وصوب، تحمل آثـار بيئات مختلفة، لها من خطوط الاتفاق والالتقاء ما ينتهي إلى صيغة موحدة؟ وهب أن ذلك قد وقع، فهل تكون تلك الصيغة مصادفة للصواب ملائمة لفطرة البشر؟
الواقع أن المتمعن في قضية العقل البشري، وتحليلها من جميع [ ص: 81 ] جوانبها، لا مفر له من الوصول بكل طمأنينة وجلاء إلى الاقتناع بنقص الفكرة العقلية، وعجزها عن إرساء قواعد سليمة للقيم... وذلك للأسباب التالية:
1) (لأن العقول -مصدر هذه الفكرة- متفاوتة في إدراكها وفي حكمها على الأشياء، وفي مقاييس الخير والشـر، فيستحسن بعضها ما لا يستحسنه الآخر، ويستقبح بعضها ما لا يستقبحه الآخر. وقد رأينا في عصرنا الحاضر ألوانا للفكرة العقلية أوقعت الشعوب في الحيرة والاضطراب رأينا شيوعية ورأسمالية وديموقراطية وديكتاتورية ، إلى غير ذلك من أنواع البرق ذي الألوان الخاطفة، وكلها يلبس الحق بالباطل، ويحاول أن يغتصب ما استطاع أن يغتصب) (8) .
2) لأن العقول في إفرازها للأفكار تقع تحت طائلة الأهواء والمصالح الشخصية التي لا يستطيع أصحابها التحرر من ضغطها.. وكم طلع المفكرون على الناس بقوانين زعموا لها من الأهداف السامية والنوايا الطيبة ما كذبته الشواهد وأثبتت عكسه تماما، أي إن نزعات منفعية ضيقة كانت وراء صياغة تلك القوانين.
3) لأن العقول محدودة الإدراك، ضيقة الآفاق، لا تستطيع استطلاع مستقبل البشرية ومقتضيات التطور الإنساني، وعلاقته [ ص: 82 ] بطبـيعة الإنـسـان، ولذلك رأينا القـوانين التي يصنعها البشر سرعان ما تتلاشى وتظهر عيوبها وثغراتها، مما يدل على أنها فصلت على أساس من الجهل بالإنسان ومتطلباته.
4) حتى وإن فرضنا أن العقول قد اتفقت على نظام معين، وأن الرغبة في خير الإنسانية هي الدافعة إليه، لا الهوى، فإن نطاق تأثير ذلك النظام سيكون ضيقا، بحيث لا يمس سوى قلوب من صدر عنهم النظام، أما الأمة فتساق إليه عنوة، ولا تتبعه بدافع احترامه وتقديره، بل إنها لا تقف عنده إلا حينما تخشى الوقوع تحت طائلته [2]
على ضوء هذه الحقائق والمعطيات عن طبيعة وحدود العقل البشري، أتطرق لموقف أهل السنة والجماعة من القيم التربوية (أو الأخلاق) .
حينما ثارت مشكلة قدرة العقل على التمييز بين الخير والشر، أو الحسن والقبيح، وما إذا كان هذان الأخيران صفتين ذاتيتين في الأشياء، أم أنهما مرهونان برأي الشرع، وقف المعتزلة موقفا مسرفا يمجد العقل ويحكم بأن طاقاته غير محدودة، أما أهل السنة فقد (رأوا أن العقل أضعف من ذلك، وأن استطاعته محدودة بإدراك ما يتعلق بشأنه هو، أو أقل من ذلك، وأنه منح القدرة على أن يدرك البرهان على وجود الله والنبوة العامة، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، ولم يمنح القدرة على معرفة كنه [ ص: 83 ] الله وصفاته، فلنؤمن بما جاء به أنبياؤه، ولنقف عند ما قالوه) [3]
إن الأصل (في الأخلاق الإسلامية على مذهب أهل السنة، يرجع إلى سلطة خارجية قاهرة هي سلطة الدين، وأساس هذا الدين القرآن الواجب تعليمه وتعلمه.. والصلة بين الدين الإسلامي والأخلاق، عظيمة تبلغ حد التوحيد بينهما) [4]
إن هذا الموقف الذي استقر عليه أهل السنة والجماعة، وهذا الفهم العميق، وهذا النظر البعيد الذي يدل على فقه صحيح لمسألة الأخلاق -كيف لا وقد استقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - هو ما وصلت إليه عقول الفلاسفة بعد لأي، وبعد مخاض مرير عاشته البشرية ولا تزال، بل بعد أزمات ضربتها في الصميم ومزقت أوصالها، تلك الأزمات التي لم تكن إلا حصيلة لاطمئنان البشرية وركونها لما تمليه العقول المختلطة بالأهواء والثقة العمياء فيه. فلقد وجدنا في العصور الأخيرة كثيرا من الأصوات تنـادي بضرورة ارتباط الأخـلاق بالديـن، وإلا فلن نكون إلا أمام شبح فارغ يضر ولا ينفع.
وضرورة ارتباط الأخلاق بالدين قائمة على أساسين: الأساس الأول يتعلق بصحة ومصداقية الأخلاق الصادرة من الدين وملاءمتها [ ص: 84 ] للفطرة، والأساس الثاني يتعلق بالشحنة القوية التي تتحرك بها الأخلاق عبر النفوس، والتي تستمد قوامها من مبادئ الدين.
وضرورة ارتباط الأخلاق بالدين تنبثق من شيء آخر، ذلك (أن الدين لا يقف عند الدعوة إلى مكارم الأخلاق وتمجيدها، إنه هو الذي يرسي قواعدها ويحدد معالمها ويضبط مقاييسها الكلية، ويضع الأمثلة للكثير من جزئيات السلوك، ثم يغري بالاستقامة، ويحذر من الانحراف، ويضع الأجزية مثوبة وعقوبة على كلا السلوكين نصب العين) [5]
أما الأخـلاق النظـرية التي يضـعها الفـلاسفة، فهي تولـد باردة لا تجدي فتيلا في تحريك النفوس وبعث الحرارة فيها، بل إنها تزيدها صقيعا على صقيع.. لأنها تقوم على أساس واه لا يكاد يثبت أمام عوادي الزمن وصروف الحياة. قال الفيلسوف الألماني"فيخته": الأخلاق من غير دين عبث.. وقال الزعيم الهندي "غاندي": (إن الدين ومكارم الأخلاق هما شيء واحد، لا يقبلان الانفصال، ولا يفترقان عن بعضهما البعض، فهما وحدة لا تتجزأ. إن الدين كالروح للأخلاق، والأخلاق كالجوارح للروح، وبعبارة أخرى: إن الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها، كما أن الماء يغذي الزرع وينميه) [6] [ ص: 85 ]
إن حقيقة ارتباط الأخلاق بالدين قد أصبحت حاضرة -ويزداد الوثوق واليقين بها يوما بعد يوم- في أذهان العقلاء من الغربيين، الذين توصولوا إلى أنه بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق، وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون [7]
وهذه النتيجة تثبت لنا تهافت فكرة طالما روج لها أصحاب الفكر العلماني اللاديني، وهي فكرة الضمير، ونشأة هذا الضمير في معزل عن أجواء الدين التربوية.. وبعبارة أخرى، فإن الأبحاث والتجارب التي يزخز بها الواقع نفسه تعطي البرهان القاطع على خرافة الضمير بلا دين، (ذلك أن الإنسان يكاد لا يعطي شيئا إلا يأخذ في مقابله شيئا، نقدا أو نسيئة، فنفسه تتطلع دائما إلى الجزاء العادل على ما قدم.. وقد حاول الفلاسفة الماديون أن يشبعوا هذا الجانب بالأجزية الأخلاقية المجردة عن الدين، وعن طريق ما أسموه "الضمير" الذي يجزي فاعل الخير ومؤدي الواجب بالسرور والرضا والارتياح، الذي يحسه الإنسان بين جنبيه. ولكنهم حاروا كيف يجزى من يضحي بنفسه ويبذل روحه ويموت شهيدا في سبيل الحق؟ إنه لا مجال لرضى النفس وراحتها بعد الموت عند هؤلاء الماديين، والموت عندهم فناء محض. إن الإيمان بالله وبجزاء الآخرة هو الذي يحل هذه العقدة) [8] [ ص: 86 ]
وخلاصة القول في هذه القضية: إن الموقف الإسلامي الصحيح كما يمثله أهل السنة والجماعة، يمثل ضرورة قصوى بالنسبة للمجال التربوي الذي ينشد الوحدة، هذه الوحدة التي لا تزال البشرية تفتقدها حتى الآن، بسبب بعدها عن هدي الإسلام ومبادئه السمحة.
إن الإطار الثابت الذي تقدمه التربية الإسلامية بفضل ربطها بين الأخلاق ودين الله القويم، هو الخلاص النهائي من الأزمة التي تصيب التربية في العالم، وتصيب معها نظام الحياة بأكمله.