القيم التربوية بين الثبات والتطور
في هذا المحور يجدر بي أن أطرح السؤال التالي: هل القيم التربوية تتسم بطابع الثبات أم بطابع التطور؟ وهل هي ذاتية أم موضوعية؟ يقول "د. منير مرسي": (تبعا للنظرية التواترية، فإن الطبيعة الإنسانية طبيعة شاملة. فجوهر الإنسان يتمثل في الغاية التي يحيا من أجلها، والتي يجب أن تكون غاية دينية وعقلية وفكرية، لذا فجميع أشكال التربية في ظل جميع الظروف لها مثل أعلى ثابت) [1]
إن ما ذهبت إليه النظرية التواترية ينطلق مما ينبغي أن يكون، وهو يعبر عن رؤية عميقة. ولكن السؤال المطروح هو ما إذا كانت الثقافات [ ص: 59 ] الموجودة في العالم تعبر عن هذه الحقيقة المتصلة بفطرة الإنسان؟ إن واقع الأمور ينطق بخلاف ذلك، فما دامت المجتمعات لم تصدر جميعا عن تلك الحقيقة، فإننا نجدها تفترق في ثقافاتها على فرق شتى، تتسع الهوة بينها وتزداد عمقا بقدر ابتعادها عن عناصر الحقيقة المذكورة المجسدة لجوهر الإنسان. وهذا الأمر هو ما دفع "د.محمد منير مرسي" إلى اعتبار الإنسان الناضج نتاج ثقافة أكثر من أي شيء آخر يسمى بالطبيعة الإنسانية.. ويخلص من ذلك إلى أنه ليس ثمة تربية وحيدة مناسبة للإنسان في ذاته، بل هناك مدى من النظم التربوية المناسبة للناس بثقافاتهم المختلفة، ذلك أن الطبيعة الإنسانية هي نتاج لزمانها ومكانها [2]
لقد كان بالإمكان أن نتفق مع هذا الرأي لو بقي عند حدود تصوير الواقع الثقافي البشري على ما هو عليه، أما أن يتجاوز ذلك إلى القول بأن النظم التربوية المتعددة مناسبة للناس، فهذا ما لا يمكن أن يعبر عن حقيقة الأشياء. فمهما يبدو للنظر السطحي في بعض الأحيان أن تلك الأنظمة التربوية مناسـبة لأصحـابها، فإن ذلك النظر لا يلبث أن ينكشف زيفه للعيان مع انفجار الأزمات الخانقة التي تطوق الإنسان وتعتصره بعنف من جراء التناقضات والفتوق التي تعاني منها [ ص: 60 ] تلك الأنظمة، لأن بناءها في واد، وجوهر الإنسان في واد آخر.
إن هذه الفكرة هي ما يشير إليه الكاتب نفسه بعد الفقرة السابقة بقليل بقوله : (ومع هذا فإن النسبية الثقافية تخلق أيضا مشكلة خلقية خاصة بها، فهل لنا أن نتقبل أي عرف باعتبار أن له ما يبرره، بغض النظر عن مدى مقتنا له، طالما أنه يشكل جزءا متكاملا في ثقافة أخرى؟ أليس لنا الحق أن ننعى على الإبادة الجماعية وأكل لحوم البشر والرق والتعذيب الجسمي لمجرد أنها تمارس بواسطة شعوب أخرى؟...) .
قد يقول قائل: ما دامت الطبيعة الإنسانية واحدة وجوهرها واحدا، فلماذا هذه الألوان من الأوضاع الثقافية؟ وما السر في وجود أنماط متباينة من الناس تأخذ بقيم متباينة كل التباين، حتى لتصل إلى التناقض فيما بينها؟ والجواب [3] على هذا يكمن في طبيعة الإنسان نفسها، إذ ليس اختلاف النماذج البشرية باختلاف الثقافات دليلا على تعدد الجوهر الإنساني، بل هو دليل على قابلية الإنسان للتطبع بعقائد البيئة وقيمها إلى حين.. تلك البيئة التي تكتنفه في مراحله الأولى -وهي مراحل الطواعية المفتوحة لكل شيء -مما يترتب عنه تشكل عقليته ونظرته للحياة، وفقا لقوالب تلك البيئة التي تحتضنه. [ ص: 61 ]
أضف إلى طواعية الإنسان ومرونة طبعه حرص الآباء على أن يكون أبناؤهم على غرار النماذج المرضية عندهم، المألوفة لديهم. هذه الحقيقة الكبرى هي ما يتضمه حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) [4]
لقد أخرج هذا الحديث المولود البشري وعزله ككائن مستقل عن المجتمع (الدين) الذي يولد فيه، وجعله على طرف واحد، وجعل على الطرف الآخر ما يتوارثه الآباء والمجتمع من دين ومعتقدات وقيم ونمط في الحياة، وأشار بهذا الفصل إلى وجود تناقض حاد وعميق بين الطرفين: بين ما ترشحه له فطرة الإنسان التي جعلها الله في خلقه من جهة، وبين حرص وقدرة الآباء على نقل ما توارثوه وتعودوا عليه إلى أولادهم من جهة أخرى. فأثار هذا الحديث بهذا الفصل قضية صارت أهم وأكبر قضية في تحرر الإنسان وفي تربيته بعد مجيء الإسلام: فهل يتقرر نمو ومصير المولود البشري في عقليته ومعتقداته وقيمه في هويته الدينية الحضارية، بفعل ما توارثه آباؤه من المجتمع الذي يولد فيه؟ أم هل يمكن أن يكون له مصـير آخر يختلف عن ذلك المصير؟ وما هو هذا المصير؟ وأي المصيرين خير له وأفضل؟ وكيف نحكم في هذه القضية وعلى أي أسس؟ [5] [ ص: 62 ]
من خلال هذا النص العميق حقا، والذي نفذ فيه صاحبه إلى جوهر المشكلة الثقافية والتربوية، تتكون لدينا قناعة بأن المظاهر التي قد تتجلى فيها الطبيعة الإنسانية، والأردية التي ترتديها، لا ينبغي بحال من الأحوال أن تحجب عن عقولنا ذلك الجوهر الكامن في أعماق نفس الإنسان، وإلا كنا معرضين للانسياق وراء أهواء الإنسان وتعبيراته الفجة، ظانين أنها تعبر عن أصالته وحقيقة وجوده. وينبغي في مقابل ذلك، أن نتجه بأنظارنا ونحن نتعامل مع الإنسان، إلى أن نخاطب فيه فطرته الثابتة، التي تحتاج إلى نسق ثابت من القيم لا يتبدل، وإلا انحرف عن جادة الفطرة إلى متاهات تشوه الإنسان.
وصدق الله تعالى القائل: ( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) (الروم: 30) .
( فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر: 43) .
إن (هذا التركيز على ما أوجد في خلق الإنسان من قدرات ترشحه لحب الحق والتوجه نحوه ربه، نقل مهمة التربية نقلا جذريا وغير غاياتها تغييرا أساسيا، فبعد أن كانت مهمتها نقل ما توارثه الآباء والمجتمع، صارت مهمتها توفير ما يلائم فطرة الإنسان من نمو عقلي وخلقي ووجداني وصارت غايتها كمال هذه الفطرة. وبهذا الانتقال، ارتقت التربية من ضيق وتعدد ونسبية المجتمعات المختلفة، إلى تربية [ ص: 63 ] عالمية ترتبط بحقيقة الإنسان نفسه أينما كان وفي أي عصر كان) [6]
إن المعطيات الآنفة الذكر يشهد لها ويعضدها أن (الإنسان المعاصر رغم كل التطورات التي تعرضت لها حياته، يؤمن بنفس المفاهيم والقيم التي كان الإنسان يؤمن بها قبل مراحل عديدة من التاريخ المعاصر. فإن المحبة والتآلف، والرحمة والعدل، والصدق والأمانة، والحرية والعواطف الإنسانية، التي كانت تحتل محلا رفيعا منذ أقدم العصور في تاريخ الإنسان، لا تزال تحتفظ بمكانتها من النفس الإنسانية، في ظروف مادية مختلفة تماما عن الظروف السابقة لحياة الإنسان) [7]
والتربية في البلاد الإسلامية، لكي تخرج من هذا التخبط المريع، لا بد لها من أن تعض بالنواجذ على هذه الحقائق، ليس لتنقذ نفسها من الضياع والعزلة التي تنوء بأثقالها فحسب، بل لتخلص الإنسانية الشقية من حولها، التي تعاني أصعب حالات الاغتراب عن الذات، والابتعاد عن الفطرة.