الأصل الثاني عشر
قبول توبة الداعي إلى البدعة
يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن البدعة مهما غلظت، ذنب من الـذنـوب، ومـا مـن ذنب إلا ويغفـره الله تعـالـى، مستـدلا بقولـه تعالـى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) (الزمر: 53) ،
قائلا: هـي (آية عظيمة جامعة، من أعظم الآيات نفعا، وفيها رد على طوائف، رد على من يقول: إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي، فيه (أنه قيل لذلك الداعية: فكيف بمن أضللت) [1] ، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك، كأبي علي الأهوازي [2] .
وأمثاله، ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وما يحتج به وما لا يحتـج به، بل يـروون كل ما في الباب محتجين به، وقد حكى هـذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين، أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم، وقد تاب قادة الأحزاب، مثل أبي سفيان بن حرب [3] ، والحارث بن هـشام [4] ، وسهيل بن عمرو [5] ، [ ص: 145 ] وصفوان بن أمية [6] ، وعكرمة بن أبي جهل [7] ، وغيرهم بعد أن قتل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلاما، وغفر الله لهم،
قال تعالـى: ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) (الأنفال: 38) ..
وعمرو بن العاص [8] كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم: ( يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يجب ما كان قبله؟ ) [9] ) [10] .. ومن البدع الغليظة التي نص شيخ الإسلام ابن تيمية على قبول توبة التائب منها، بدعة سب الصحابة [11] رضي الله عنهم ، وبدعة الاتحادية ووحدة الوجود [12] .
وقد بين شيخ الإسلام رحمه الله غلط من ذهب إلى أن توبة الداعي إلى البدعة لا تقبل، من جهة الدليل من الكتاب والسنة، فإن الله بين في كتابه أنه يتوب على أئمة الكفر، الذين أهم أعظم من أئمـة البـدع،
فـقال تعالـى: ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) (البروج: 10) .
قال الحسن : (انظروا إلى هـذا الكلام، عذبوا أولياءه وفتنوهم، ثم هـو يدعوهم إلى التوبة) [13] .
وقال تعالى عن المشركين: ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ) (التـوبـة: 5) ..
وقال تعالى: ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ) (المائدة: 73-74) [ ص: 146 ] .. وأما السنة فإنها دلت على قبول توبة القاتل، كما في حديث ( الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل هـل له من توبة، فدل على رجل عالم، فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة ) [14] .. والقتل من الذنوب الكبيرة، ثم إنه ليس في الكتـاب والسنـة ما ينـافـي ذلك ولا نصوص الوعيد، بل علم يقينا أن كل ذنب فيه وعيد، فإن لحوق الوعيد به مشروط بعدم التوبة، إذ نصوص التوبة مبينة لتلك النصوص، كالوعيد في الشرك وأكل الربا [15] .
ووجه رحمه الله أقوال القائلين بعدم قبول توبة الداعي إلى البدعة بما يلي:
أ - من قال: توبة الداعي غير مقبولة، فيعني: أن التوبة المجردة تسقط حق الله في العقاب، دون حق المظلومين [16] .
ب - ومن قال: البدعة لا يتاب منها، فيقصد بذلك: (أن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسـوله، قد زين له سـوء عملـه فـرآه حسنا، فهو لا يتوب مادام يراه حسنا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب، ليتوب ويفعله، فمادام يرى فعله حسنا، وهو سيء في نفس الأمر، فإنه لايتوب)[17] .
جـ - ومن قال: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، فإنه يقصد: إنه (لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هـدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر) [18] .
وهكذا فما ورد مما يدل على عدم قبول التوبة، فمحمول على تلك المعاني، أو أن قائلي تلك الأقوال قالوها على وجه التغليظ على أهل البدع، لتنفير الناس من البدع، وذلك لقوة دليل من يقول بقبول التوبة. [ ص: 147 ]