تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث للناس كافة بشيرا ونذيرا.
وبعـد:
فهذا كتاب الأمة الثاني والخمسون: (عمرو بن العاص رضي الله عنه .. القائد المسلم والسفير الأمين - الجزء الثاني) للواء الركن محمود شيت خطاب ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي والتأصيل الإسلامي، وإعادة الإحياء والبناء، من خلال محاولة استشراف آفاق الماضي، وخاصة مرحلة خير القرون، التي شهـد الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالخيرية، وجعل شهيدا عليها لتصبح هـي شاهدة على الناس، تصوب مسارهم، وتقوم سلوكهم بقيم الكتاب والسنة، وتتحقق بالمرجعية من فهم خير القرون، حتى تتمكن من العبور إلى المستقبل بخطوات ثابتة، تأمن معها اغتيال الشياطين، والتضليل الثقافي، وتحصن دون انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،
[ ص: 9 ] وتحريف الغالين، وتحقق خلود هـذا الدين، وقدرته على إنتاج النماذج الإسلامية، التي تتمثل قيم الإسلام في حياتها، مقتدية بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومتأسية برجال خير القرون، ومساهمة بإظهار الإسلام على الدين كله.
وقد يكون من المفيد، ونحن بصدد الجزء الثاني من الكتاب، أن نتابع التأمل في جوانب من أبعاد خيرية جيل الصحابة، السابقين الأولين، الذين أظهر الله بهم هـذا الدين، وامتدوا به في الآفاق، متابعة للرسالة، وحملا للأمانة، حيث أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون، وأمد الأمة المسلمة عبر التاريخ، وزودها بعوامل الظهور ومقومات الإظهار لهذا الدين.. فهي الأمة التي امتازت عن غيرها من سائر الأمم، أنها تمتلك النص الإلهي السليم، أو خطاب الله للبشر، المتناسب مع فطرتهم، القادر على إنتاج النماذج التي تتمثله في حياتها، في كل زمان ومكان.. وهي الأمة التي تمتلك الفترة التطبيقية المشهود لها بالرضى والخيرية، سواء على مستوى الجماعة، أو على مستوى الأفراد، الذين آمنوا بهذا الدين وما يزالون يقبلون عليه، من مختلف الشرائح الاجتماعية والسويات الحضارية.
فعلى المستوى الفردي، نجد اليوم الإقبال على اعتناق الإسلام متحققا في أرقى المجتمعات البشرية، وأكثرها مدنية في أوروبا وأمريكا، كما نجد الإقبال عليه مستمرا في أدغال إفريقية، وأكثر المجتمعات بداوة وبدائية، إضافة إلى عودة الوعي به، وتجديد العزيمة
[ ص: 10 ] على الرشد في مجتمعات المسلمين، وتقديم نماذج من أعلى التضحيات وأغلاها في سبيله، وإحياء موات الأمة في عالمنا الإسلامي، بعد أن سقطت كل الشعارات التي حاول أصحابها أن تحقق الظهور، وأن تكون البديل الملائم.
أما على مستوى المجتمعات، فلا تزال طوائف من أبناء الإسلام قائمة على الحق، ممتدة به، مضحية في سبيله، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك.
ولئن جاز لي أن أتوقف قليلا عند ملمح بسيط بين مدلول كلمتي الإظهار والظهور، لقلت: بأن الظهور للدين الذي أشار له القرآن، أصبح متحققا، ذلك أن الإسلام الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا، ما يزال مطروحا وله الحضور الكامل على مختلف الأصعدة، الحضارية والثقافية والسياسية والدينية، لم يستطع أحد مهما قوي جبروته، وتصاعدت عداوته، أن يقف في وجهه أو يغيبه.. فالإسلام يندفع ويتقدم بقوته الذاتية، وفطرية مبادئه، وتحقيقه لإنسانية الإنسان، يتقدم صوب الإنسان، أينما كان، ويتقدم الإنسان أيضا باتجاه الإسلام، كرجاء وسبيل خلاص، من خلال معاناته وأزماته وإشكالياته، التي أورثتها الحضارة المعاصرة.
ولعل ثورة المعلومات والاتصالات، التي اختزلت الزمان والمكان، أو ما يمكن أن أسميه: حقبة امتداد الحواس وامتلاكها طاقات إضافية هـائلة،
[ ص: 11 ] حققتها ثورة التكنولوجيا، حتى أصبح الإنسان يرى آخر الدنيا وهو في مكانه، ويسمع أصوات أقاصيها وهو في مكانه، نقول: لعل ثورة الاتصالات، وطي المسافات، بقدر ما حملت لنا من المخاطر والنفايات الثقافية والحضارية، بقدر ما أتاحت لنا آفاقا ومجالات لامتداد الإسلام وحضوره وظهوره، إما بعز عزيز أو بذل ذليل، مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
( ليبلغن هـذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هـذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل به الكفر. ) (رواه الجماعة) .
إن هـذا الظهور وهذا الحضور وهذا الشهود -إن صح التعبير- أصبح أمرا قائما، على الرغم من حالات العجز والتخاذل والتخلف الذي يعيشه عالم المسلمين، ويحول دون امتلاك المقومات والقدرة على إظهار الإسلام.. فالظهور يعني النمو والامتداد الذاتي، بما يمتلك من عوامل ذاتية، على الرغم من العجز الذي يعيشه العالم الإسلامي على الإظهار.
ولعل هـذا الأمر، أمر ظهور الإسلام وتوجهه العالمي، انطلق وتحقق بعد معركة الفرقان ونصر بدر، التي قادها جيل الصحابة، جيل الفوز بالسبق والريادة والنصيحة،
( وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : اللهم إن تهلك هـذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. ) (رواه مسلم) ،
[ ص: 12 ] ولذلك كان للبدريين من الصحابة من الثواب والأجر والمغفرة ما ليس لغيرهم:
( لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ) (متفق عليه) ، لأن أمر الإسلام بعد بدر قد توجه، وظهوره قد تحقق بعد أن أظهره البدريون، بتوفيق الله ونصره، ويئس الذين كفروا من إطفاء نور الإسلام، وعجزوا عن الحيلولة دون ظهوره، على الرغم من كرههم له:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32 ( ولـو كـره الكافرون ) (التوبة:32) ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3 ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة:3) .
وبالإمكان القول: إن جيل الصحابة رضي الله عنهم ، هـم الذين أظهروا الإسلام، وامتدوا به في الاتجاه الإنساني والعالمي، وتجاوزوا في إظهاره الجغرافيا والتاريخ، والجنس واللون، والأرض واللغة، والمناخ والبيئة، انطلقوا به إلى الرحابة العالمية، فكانوا نماذجه التطبيقية التي تثير الاقتداء، في المواقع كلها، والظروف كلها، والحالات الثقافية والبشرية كلها.
لقد كانوا نماذج عالمية إنسانية، امتدوا بالإسلام في كل الاتجاهات، وعلى مختلف الأصعدة.. استوعبوا كل الثقافات والحضارات والأديان، واستطاعوا الإنتاج والبناء الإسلامي في كل المواقع، مما يؤكد عالمية الإسلام، وإنسانية الإسلام، حتى إن الحضارة الإسلامية في مصبها الأخير، كانت مشتركا إنسانيا متشابكا، يصعب معه فرز ألوانها أو عناصرها أو أجناسها.. هـي إسلامية القيم والمنطلقات، عالمية العطاء البشري.
[ ص: 13 ]
بينما نرى الحضارات التي ظهرت على مسرح التاريخ البشري، سواء السائد منها والبائد، كانت حضارات خاصة بقوم، أو جنس، أو جغرافيا، ولم ترتق إلى مستوى المشترك الإنساني.. فهي إما: حضارة يونانية، أو رومانية، أو فرعونية، أو فينيقية، أو فارسية، أو أوربية...الخ، على عكس الحضارة الإسلامية، التي هـي في مبادئها وممارساتها، حضارة إنسانية، تحقق فيها ولها المشترك العالمي، الأمر الذي يصعب معه وصمها بالعنصرية، أو الإقليمية، أو العرقية...الخ.
من هـنا نقول: إن جيل الصحابة، الذي كان له فضل السبق في إظهار الإسلام، ومن ثم ظهوره وامتداده، ليس خاصا بأمة، أو جنس بشري، أو جماعة، أو بيئة، أو تاريخ.. إنهم نماذج عالمية الأداء، إنسانية العطاء، بما تحمل من قيـم الإسـلام العالميـة والإنسانيـة، لـذلك لا يقتصر التأسي بهم، وتلمس جوانب العظمة -فيما نرى- على الأمة المسلمة، أو معايرة العظمة في إطارها، لأن ذلك مجافاة للحقيقة، وبخس للأشياء، ومحاصرة لإظهار الدين، ونماذج ظهوره اليوم.
ذلك أن جيل الصحابة رضوان الله عليهم، بما تحقق لهم من الخصائص والصفات، وما تمثل على أرض الواقع لهذه الصفات، يشكلون نماذج الاقتداء والإشعاع، والارتكاز الحضاري، على المستوى العالمي.
ونستطيع القول: إن الفائدة من جيل الصحابة لم تتحقق بالأقدار المطلوبة،
[ ص: 14 ] وأن الانحياز لهذا الجيل المرضي عنه من الله عليه السلام ، والمشهود له بالخيرية من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما جاء في معظمه عاطفيا، تتحكم به عقدة الافتخار بالماضي، لمواجهة مركب النقص أمام الاستلاب الحضاري والثقافي، والعجز عن الإنتاج.. أو بمعنى آخر، جاء هـذا الانحياز لتحقيق الحماية دون التنمية، لذلك فهو أقرب لثقافة الاستهلاك منه لثقافة الإنتاج، ولذلك لم يسهم بتغيير الحال الإسلامي، إلى درجة يمكن أن نقول معها: بأن جيل الصحابة لم يأخذ البعد المطلوب، من ثقافة المسلمين وتربيتهم، ولم تنعكس خصائصهم وصفاتهم التي كانت سبب خيريتهم والرضى عنهم، على مناهج التعليم، والإعلام، والثقافة، والتربية، لتحقيق التأسي المطلوب، وصناعة الثقافة والتربية للأمة، وإنما اتجهت الخطب والكتابات والدروس والوعظ والإرشاد، إلى الفخر بهذا الجيل -وهو مما يفتخر به لا شك- والتعاظم بإنجازاته، دون القدرة على استنباط الأسس، والقواعد، والمناهج، وجوانب العظمة، وكيفيات بنائها في الجيل المسلم.
وعلى أحسن الأحوال، كانت الكتابات والدراسات الإسلامية لهذا الجيل، يغلب عليها الطابع والمنهج التسجيلي، التصويري، التفسيري، لا الطابع والمنهج التحليلي، الذي يستطيع تجريد معاني الخلود، وتخليصها من قيود الزمان والمكان، والأشخاص، والامتداد بها، لتمثل روائز ومنطلقات تربوية وثقافية للجيل في كل زمان ومكان.
[ ص: 15 ]
هذا من وجه، ومن الوجه الآخر، جنحت معظم الكتابات الإسلامية حول التعامل مع هـذا الجيل، على أنه نماذج اقتداء على المستوى الإسلامي أو العربي، دون الالتفات إلى البعد الحقيقي إلى الوظيفة المهمة والأساسية، وهي أن هـذا الجيل يشكل نماذج عالمية وإنسانية، سواء فيما تمثل من قيم، أو بما قدم من عطاء.. فعظمة هـذا الجيل ليست على المستوى العربي الإسلامي، وإنما هـي أيضا على المستوى الإنساني العالمي، فهم ورثة النبوة، وهم حملة الرحمة للعالمين.. هـم حملة الرسالة العالمية الخالدة، وقاعدتها البشرية الأولى، ونماذجها التطبيقية، التي تشكل تراثا إنسانيا ومراكز إشعاع عالمي.
لذلك نرى كثيرا من تلك الكتابات التي حاصرت نفسها بظرف الزمان والمكان، وتحدثت عن جيل الصحابة وعظمته، وتألقه في إطار الزمان، الذي عاشوا فيه، عجزت عن الامتداد بجوانب العظمة وخصائص البطولة، وأسباب التألق، لتكون منارات هـادية للأجيال في كل زمان ومكان، يمكن أن تقترب منها، فهي في عمومها اقتصرت على الافتخار بتلك العظمة، دون تربيتها على القدرة للاستفادة منها وتجسيدها في واقعها، اللهم إلا ما كان من دراسات انتقائية، وقراءات مغلوطة، جاءت من الخارج الإسلامي، أغرقت الساحة الفكرية بأهداف وأفكار، وأيديولوجيات وفلسفات دخيلة وغريبة عن طبيعة عقيدة الأمة ومعادلتها الاجتماعية.. أرادت أن توجد لها التغطية التراثية أو
[ ص: 16 ] المشروعية من التراث، وعلى الأخص من فترة جيل القدوة والتأسي، للتسلل إلى الداخل الإسلامي، متجاوزة أسوار الغربة، ومخترقة التحصينات الفكرية الإسلامية.
وبالإمكان القول: إن هـذا الجيل، أو هـذا التراث، قرئ تارة بأبجدية رأسمالية، وأخرى بأبجدية ماركسية، وثالثة بأبجدية علمانية، وأخرى بأبجدية باطنية، ويكفي أن نقول: إن ما سمي في فترة من الفترات باليسار الإسلامي، وأفرز بعض المؤلفات التي تسللت إلى المكتبة الإسلامية ووجدت مكانا لها بسبب الفراغ، حاول ممارسة الانتقاء والإسقاط ليجد لنفسه موطن قدم، ولأفكاره بعض المشروعية، سقط هـذا جميعه، على الرغم مما ترك من بعض الضحايا والإصابات، لأن هـذا الجيل المشهود له بالخيرية، هـو أنموذج هـذا الدين التطبيقي، الذي يتجدد باستمرار، ويستأصل نوابت السوء وأنماط الفهوم المعوجة، وينفي عن نفسه الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.
وقد لا نحتاج إلى ذكر الأمثلة من الكتابات التي قسمت الصحابة إلى يسار ويمين، وذكرت قائمة من الصحابة (اليساريين) ، وأخرى من الصحابة (اليمينيين) ، وحاولت تفسير تاريخ الصحابة من خلال فلسفة الأنظمة، التي انطلقت منها، وانحدرت إلينا، الأمر الذي يمكننا من القول: إن فتاوى السلطان، وتطويع النصوص، والانتقاء والإسقاط، لم يقتصر على الفتاوى الفقهية، وإنما تجاوز إلى الطروحات الثقافية
[ ص: 17 ] أو الفتاوى الثقافية -إن صح التعبير- وهي الأخطر، لأنها تصنع القابليات، وتشكل العقول، وتضلل الآراء.
وتبقى القراءات المطلوبة والغائبة، هـي القراءات والمراجعات من خلال ميزان الكتاب والسنة، في تحديد الخطأ والصواب، والضعف والقوة، في واقع التدين، لأن الله الذي اصطفى هـذا الجيل، وأورثه النبوة والكتاب، أخبر عن الفوارق الفردية في التدين، فقال الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) (فاطر:32) .
إنها حالات بشرية دائمة ومتكررة، أو لازمة باستمرار، لتكامل الحياة وتماسك شبكة العلاقات الاجتماعية، ولو لم يكن ذلك كذلك لما تحقق لجيل الصحابة موقع القدوة، ومرتكز التأسي.
أما دراسة هـذه الحقبة بروح عدوانية حاقدة، والضغط على مواطن الخلاف والتضخيم لها، والتقاط بعض الجزئيات وتعميقها، ومحاولة رؤية هـذا الجيل من خلالها، وتصوير هـذا الجيل المشهود له بالخيرية، على أن حياته كيد وتآمر، ومكر، وحرب، واغتيالات، واستئثار بالحكم والرأي، وتصفية الخصوم، والتقاط الروايات الضعفية والهالكة والساقطة، ومحاولة تجاوز البشرية وطبائعها، إلى الملائكية، والمعايرة بها، لنقض الأساس الذي تقوم عليه المرجعية الإسلامية، والنيل من
[ ص: 18 ] جيل خير القرون، وإيجاد الحواجز النفسية بين الأجيال المتعاقبة وميراثها المرجعي، وإبراز عناصر التألق والإنجازات الديمقراطية والإنسانية في الحضارات والثقافات الأخرى، لاغتيال الجيل المسلم واستلابه، فحديثه يطول!!
وقد يكون هـذا الحال الثقافي، بما يمتلك من وسائل الإعلام، ووسائل التشكيل الثقافي الأخرى، هـو أخطر فتنة للجيل المسلم، الذي لا يجد نفسه في تاريخه، ولا في واقعه، وإنما لا يجد نفسه إلا عند (الآخر) ، الذي قد يمنح له هـوامش من الحرية، فما يقوله في الأسواق، والإعلام، والأندية، والمؤسسات الفكرية هـناك، قد لا يستطيع أن يقوله في أي مكان في بعض بلاد العالم الإسلامي.
وبالمقابل نجد من رفع بعض الصحابة عن مقام البشرية، وادعى له العصمة عن الخطأ في كل شأن، ورأي، واجتهاد، فتجاوز به مقام النبوة، في حدود وأبعاد العصمة، ورفعه إلى مقام الألوهية، كما هـو الحال في إصابات التدين التي لحقت بأصحاب الأديان السابقة!!
ولم يختلف الحال من حيث النتيجة، بين من حاول إلغاء وإسقاط حقبة الصحابة من أعداء الدين، لأنها مرحلة الفتن والخصومات والاقتتال، فهي لذلك لا تليق بموقع التلقي والتأسي ومعالجة الواقع (!!) وبين من رفع الصحابة عن مستوى البشر إلى مستوى
[ ص: 19 ] العصمة، وناط العطاء بالمعصوم، وغيب هـذا المعصوم عن واقع الأمة، والإجابة عن إشكاليات حاضرها، والتحضير لمستقبلها.
ولعل المشكلة كلها في الكثير من دراسات الداخل الإسلامي لهذه الحقبة، إنما تتمثل في منهج التعامل، وأدوات الفحص والاختبار والنقد والمراجعة والتقويم.. المشكلة مشكلة منهج أولا وقبل كل شيء، وإذا لم يصوب المنهج فسيبقى الإنتاج مختلا.
لذلك نقول: إن هـناك بعض المسلمات أو المرتكزات الأساسية، التي تشكل نقاط الانطلاق المنهجية، وهذه المسلمات مقررة وثابتة بالتواتر، أو ما يشبه التواتر.
فجيل الصحابة، جيل رضي الله عنه، وأنزل السكينة عليه، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية.
والمعروف عقلا وشرعا، أن الله لا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضا، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدا ، كما يقول
ابن تيمية رحمه الله.
ويقول أبو نعيم: فمن أسوأ حالا ممن خالف الله ورسوله، وآب بالعصيان لهما، والمخالفة عليهما ؟! ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه بأن يعفو عن أصحابه، ويستغفر لهم، ويخفض لهم الجناح؟) (الإمامة لأبي نعيم، تحقيق علي فقيهي) .
[ ص: 20 ]
لذلك فإن الخوض في البحث في تاريخ الصحابة، دون امتلاك منطلقاته ومؤهلاته وأدواته، من القدرة على التحقيق في الروايات، وتحريرها ونقدها، والتمكن من معايير الجرح والتعديل، والنظر في هـذه الحقبة من خلال تقويم الكتاب والسنة لها، والمنهج نفسه، الذي وضعه المحدثون، وخاصة بالنسبة لهذه الحقبة دون سائر حقب التاريخ الإسلامي، قد يوقع بالفتنة والاضطراب، وانتقاص الصحابـة خير القرون، من حيث لا يعلم.
ولا بد هـنا من الإشارة إلى قاعدة منهجية علمية تربوية تعليمية مقررة، وهي أن لا يعرض على الناس من مسائل العلم، إلا ما تبلغه عقولهم، قال
الإمام البخاري رحمه الله: (باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا) (فتح الباري 1 / 199 ) . " وقال
علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ " قال
الحافظ في الفتح تعليقا على ذلك: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ) .
ومثله " قول
ابن مسعود رضي الله عنه : ما أنت محدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة (رواه
مسلم ) . "
لذلك لا بد من التحقق والتثبت من الروايات المذكورة حول الفتن، ومن ثم دراستها وتحليلها، بعد فحص إسنادها، والتعامل مع متونها، من خلال تحكيم قيم الدين في الكتاب والسنة، لبيان الخطأ في الاجتهاد.
[ ص: 21 ]
والمعروف عند أهل العلم، أن أكثر النقول من المطاعن، يرويها المعروفون بالكذب، مثل
أبي مخنف لوط بن يحيى ، ومثل
هـشام بن محمد بن السائب ...الخ.
لذلك لا يجوز من الناحية العلميـة والموضوعيـة والمنهجيـة رد ما ورد بالتواتر في فضل الصحابة، وخيريتهم، وخصائصهم، بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف.. وحتى لو سلم السند في بعض الأحيان، فلا بد من فحص المتن بمعيار الكتاب والسنة.
فالقاعدة المعروفة عند العلماء، هـي الحكم بشذوذ الحديث ورده، إذا خالف الثقة من هـو أوثق منه.. فكيف إذا خالفت الروايات التاريخية، النصوص المتواترة، التي شهدت بالفضل والخيرية والرضا؟!
ولما كان الصحابة بشرا من البشر، الذي يجري عليه الخطأ والنسيان والصواب، وكانوا مادة التنزيل الخالد وأوعيته، التي تمثل النماذج العملية لتعامل البشر مع المقدس، أو لتعامل الإنسان مع نصوص الوحي، وتبين أقدار التدين، بكل ما يعتريها من هـبوط وارتقاء، لذلك كله فإن ما يقع منهم من خطأ وتوبة وعودة إلى الحق، وانصياع للصواب، مطلوب أيضا كوسائل معينة على التأسي، والاقتداء، لاكتمال البناء في كل الظروف والأحوال، التي تعرض لها المسيرة البشرية.
[ ص: 22 ]
ولعل من القضايا المهمة والأساسية في تقديري، ونحن بصدد رؤية بعض الآفاق المستقبلية، التي تقتضي منا استشراف الماضي، وخاصة مرحلة التأسي، مرحلة خير القرون، سعيا في أن يعيننا ذلك على الانطلاق الحضاري من خلال دراسة ظروف وشروط وممارسات الولادة الأولى لمجتمع خير القرون، ونماذجها المتألقة التي تشكل بحق المرتكز الحضاري، والإشعاع الثقافي، والمرجعية والمعيارية، المشهود لها، بالنسبة للمسيرة الإسلامية في كل عصر، أن نتوقف قليلا عند بعض التأملات في النقلة النوعية التي حققها الإسلام في حياة هـذا الجيل على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفيات التربية النبوية له، وصور التعامل مع جميع الظروف والأحوال والأشخاص، وكيف تحققت شهادة الرسـول صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل، ليصبح مؤهلا لأن يشكل المرجعية، وبالتالي التصويب والشهـادة علـى النـاس:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78 ( وفي هـذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج:78) .
وقد يكون من أبرز القضايا التي تستدعي التوقف والدعوة إلى التأمل الطويل، هـي أن العملية التربوية، أو المدرسة النبوية في التربية، تعاملت مع كل الأعمار، تعاملت مع الإنسان طفلا، ومراهقا، وراشدا، وكهلا، وشيخا، وذكرا وأنثى، واستطاع الإسلام فعلا أن يشكل عطاء لهؤلاء جميعا في كل ظروفهم وأحوالهم.. ونستطيع أن نقول: إنه تعامل مع الإنسان من خلال الاستطاعة، والحالة التي هـو عليها،
[ ص: 23 ] فلم يرفض أحدا، بحيث لم يبق إنسانا خارج الخطاب الإسلامي، فتحققت الاستجابات من الشباب والشيوخ، والذكور والنساء، والأطفال، وكل وجد نفسه في الإسلام.. لذلك نلاحظ أن جيل الصحابة، الذي تربى على عين النبوة، يشكل نماذج لهؤلاء جميعا، كما أن الإسلام تعامل مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية جميعها.. وبذلك تأهل جيل الصحابة، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزكاه الله ورضي عنه، ليكون شهيدا على الناس، كما أسلفنا.
وقدم الأنموذج للتعامل مع كل الثقافات، والحضارات، والبيئات، والمناخات، والظروف والأحوال، وكان قادة الفتح نماذج مضيئة للإسلام، بعد أن تربوا في مدرسة النبوة، لتصبح هـذه التربية دليلا لإعادة البناء.. تمت هـذه التربية، وعلى مختلف الأصعدة، ومختلف الحالات، في فترة ثلاثة وعشرين عاما، فكانت أمة من خلال كتاب ونبوة، ممتدة على الزمن، وهذه المدة قد لا تكفي لزراعة شجرة ورعايتها.
لذلك عندما نقول: بأن المعجزة الإسلامية -القرآن وبيانه النبوي- تمثلت أو تحققت في إنتاج هـذا الجيل الأنموذج، لا نعني بأنها أنتجته من خلال القفزات من فوق السنن الجارية وعزمات البشر والأسباب والأقدار التي شرعها الله، وإنما نعني أنها تميزت بتعاملها مع السنن
[ ص: 24 ] والاستطاعات البشرية، ولم تخرق السنن.. أو بعبارة أخرى، لم تتعامل مع السنن الخارقة، لذلك لم تكن كمعجزات الأنبياء السابقين، مادية وخارقة للعادة، مما يلمح إلى توقيتها وانتهائها بغياب الأنبياء، على الرغم من أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم معجزات مادية خارقة للعادة أيضا، إلا أنها لم تعتبر المعجزة، لأن الإيمان بها نوع من الإيمان بالغيب، لعدم شهودها والتعامل معها، وإنما اعتبرت المعجزة هـي القرآن، الذي لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، وهو في الوقت نفسه مستمر وخالد، يمكن تنزيله والتعامل معه في كل عصر، من خلال عزمات البشر واستطاعاتهم.
لذلك قلنا: بأن المعجزة الإسلامية، جاءت لتأكيد السنن وليس لخرقها.. ولو لم يكن ذلك كذلك، لكان التجديد وإعادة الإنتاج يمثل إشكالية يصعب تجاوزها، وكان بحاجة إلى نبي مرسل، وإنما كانت المعجزة الإسلامية، في تنزيلها على الواقع، تأكيدا للسنن الجارية، وتعاملا معها، وليس خرقا لها.
ولئن كانت المعجزات المادية خرقا للأسباب، ودليلا على قدرة الله ووجوده، فإنها من وجه آخر، دليل على اطراد الأسباب، وأنه لا يملك تعطيلها إلا الله الذي خلقها، فإن المعجزة الإسلامية وخلودها، وامتدادها، يكمن في أنها تعاملت مع السنن الجارية، وأكدت اطرادها،
[ ص: 25 ] وتحققت من خلال عزمات البشر، الذين أدركوها وأحسنوا تسخيرها، فكان جيل الصحابة رضي الله عنهم ، الذي يشكل دليل التعامل، وسبيل إعادة البناء في كل زمان ومكان، تتوفر له الظروف وتتحقق فيه إمكانات ومؤهلات التسخير.
وبعد: فهذا الجزء الثاني من كتاب: (عمرو بن العاص رضي الله عنه .. القائد المسلم والسفير الأمين) ، نقدم من خلاله أنموذجا متميزا من الصحابة الكرام، كان جاهليا تعامل مع الجاهلية، لكنه تحول إلى الإسلام، على بصيرة واختيار، فجب الإسلام ما قبله، وبدأ إنسانا آخر، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، ومن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام.. كان قائدا فاتحا ينشر الإسلام ويبشر به، ويحسن سياسة أهل البلاد المفتوحة، وكيفيات التعامل معهم، وحسبه أنه أصل للحضارة والثقافة الإسلامية في مصر الفرعونية، وإفريقية الوثنية.. كان واليا، وسفيرا، وراوية للأحاديث، وخطيبا، وفقيها، وسياسيا من الطراز الرفيع.. رجل المآزق والمهمات الصعبة والمواقف الحرجة، وحسبه أنه كان صحابيا جليلا، صالحا، ذا مال صالح، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذجا ودليلا للتعامل المتوازن:
( نعما بالمال الصالح للمرء الصالح ) (رواه
أحمد ) .
[ ص: 26 ]
تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث للناس كافة بشيرًا ونذيرًا.
وبعـد:
فهذا كتاب الأمة الثاني والخمسون: (عمرو بن العاص رضي الله عنه .. القائد المسلم والسفير الأمين - الجزء الثاني) للواء الركن محمود شيت خطاب ، في سلسلة كتاب الأمة، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي والتأصيل الإسلامي، وإعادة الإحياء والبناء، من خلال محاولة استشراف آفاق الماضي، وخاصة مرحلة خير القرون، التي شهـد الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالخيرية، وجُعل شهيدًا عليها لتصبح هـي شاهدة على الناس، تصوِّب مسارهم، وتُقَوِّم سلوكَهم بقيم الكتاب والسنة، وتتحقق بالمرجعية من فهم خير القرون، حتى تتمكن من العبور إلى المستقبل بخطوات ثابتة، تأمن معها اغتيال الشياطين، والتضليل الثقافي، وتحصن دون انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين،
[ ص: 9 ] وتحريف الغالين، وتحقق خلود هـذا الدين، وقدرته على إنتاج النماذج الإسلامية، التي تتمثل قيم الإسلام في حياتها، مقتدية بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومتأسية برجال خير القرون، ومساهِمة بإظهار الإسلام على الدين كله.
وقد يكون من المفيد، ونحن بصدد الجزء الثاني من الكتاب، أن نتابع التأمل في جوانب من أبعاد خيرية جيل الصحابة، السابقين الأولين، الذين أظهر الله بهم هـذا الدين، وامتدوا به في الآفاق، متابعة للرسالة، وحملا للأمانة، حيث أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون، وأمدَّ الأمة المسلمة عبر التاريخ، وزوَّدَها بعوامل الظهور ومقومات الإظهار لهذا الدين.. فهي الأمة التي امتازت عن غيرها من سائر الأمم، أنها تمتلك النص الإلهي السليم، أو خطاب الله للبشر، المتناسب مع فطرتهم، القادر على إنتاج النماذج التي تتمثله في حياتها، في كل زمان ومكان.. وهي الأمة التي تمتلك الفترة التطبيقية المشهود لها بالرضى والخيرية، سواء على مستوى الجماعة، أو على مستوى الأفراد، الذين آمنوا بهذا الدين وما يزالون يقبلون عليه، من مختلف الشرائح الاجتماعية والسويات الحضارية.
فعلى المستوى الفردي، نجد اليوم الإقبال على اعتناق الإسلام متحققًا في أرقى المجتمعات البشرية، وأكثرها مدنية في أوروبا وأمريكا، كما نجد الإقبال عليه مستمرًا في أدغال إفريقية، وأكثر المجتمعات بداوة وبدائية، إضافة إلى عودة الوعي به، وتجديد العزيمة
[ ص: 10 ] على الرشد في مجتمعات المسلمين، وتقديم نماذج من أعلى التضحيات وأغلاها في سبيله، وإحياء موات الأمة في عالمنا الإسلامي، بعد أن سقطت كل الشعارات التي حاول أصحابها أن تحقق الظهور، وأن تكون البديل الملائم.
أما على مستوى المجتمعات، فلا تزال طوائف من أبناء الإسلام قائمة على الحق، ممتدة به، مضحية في سبيله، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك.
ولئن جاز لي أن أتوقف قليلا عند ملمح بسيط بين مدلول كلمتي الإظهار والظهور، لقلتُ: بأن الظهور للدين الذي أشار له القرآن، أصبح متحققًا، ذلك أن الإسلام الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنًا، ما يزال مطروحًا وله الحضور الكامل على مختلف الأصعدة، الحضارية والثقافية والسياسية والدينية، لم يستطع أحد مهما قوي جبروته، وتصاعدت عداوته، أن يقف في وجهه أو يغيِّبه.. فالإسلام يندفع ويتقدم بقوته الذاتية، وفطرية مبادئه، وتحقيقه لإنسانية الإنسان، يتقدم صوب الإنسان، أينما كان، ويتقدم الإنسان أيضًا باتجاه الإسلام، كرجاء وسبيل خلاص، من خلال معاناته وأزماته وإشكالياته، التي أورثتها الحضارة المعاصرة.
ولعل ثورة المعلومات والاتصالات، التي اختزلت الزمان والمكان، أو ما يمكن أن أسميه: حقبة امتداد الحواس وامتلاكها طاقات إضافية هـائلة،
[ ص: 11 ] حققتها ثورة التكنولوجيا، حتى أصبح الإنسان يرى آخر الدنيا وهو في مكانه، ويسمع أصوات أقاصيها وهو في مكانه، نقول: لعل ثورة الاتصالات، وطي المسافات، بقدر ما حملت لنا من المخاطر والنفايات الثقافية والحضارية، بقدر ما أتاحت لنا آفاقًا ومجالات لامتداد الإسلام وحضوره وظهوره، إما بعز عزيز أو بذل ذليل، مصداقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم :
( لَيَبْلُغَنَّ هـذا الأَمرُ مَا بَلَغَ الليلُ والنهارُ، ولا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أَدْخَلَهُ اللهُ هـذا الدين بِعِزِّ عَزِيزٍ، أو بِذُلِّ ذَلِيلِ، عِزًا يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسلام، وَذُلا يُذِلُّ بِهِ الكُفْرَ. ) (رواه الجماعة) .
إن هـذا الظهور وهذا الحضور وهذا الشهود -إن صح التعبير- أصبح أمرًا قائمًا، على الرغم من حالات العجز والتخاذل والتخلف الذي يعيشه عالم المسلمين، ويحول دون امتلاك المقومات والقدرة على إظهار الإسلام.. فالظهور يعني النمو والامتداد الذاتي، بما يمتلك من عوامل ذاتية، على الرغم من العجز الذي يعيشه العالم الإسلامي على الإظهار.
ولعل هـذا الأمر، أمر ظهور الإسلام وتوجهه العالمي، انطلق وتحقق بعد معركة الفرقان ونصر بدر، التي قادها جيل الصحابة، جيل الفوز بالسبق والريادة والنصيحة،
( وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : اللهم إن تَهْلِك هـذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض. ) (رواه مسلم) ،
[ ص: 12 ] ولذلك كان للبدريين من الصحابة من الثواب والأجر والمغفرة ما ليس لغيرهم:
( لَعَلَّ اللهَ قد اطَّلَعَ على أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُم. ) (متفق عليه) ، لأن أمر الإسلام بعد بدر قد توجه، وظهوره قد تحقق بعد أن أظهره البدريون، بتوفيق الله ونصره، ويئس الذين كفروا من إطفاء نور الإسلام، وعجزوا عن الحيلولة دون ظهوره، على الرغم من كرههم له:
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32 ( وَلَـوْ كَـرِهَ الْكَافِرُونَ ) (التوبة:32) ..
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3 ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) (المائدة:3) .
وبالإمكان القول: إن جيل الصحابة رضي الله عنهم ، هـم الذين أظهروا الإسلام، وامتدوا به في الاتجاه الإنساني والعالمي، وتجاوزوا في إظهاره الجغرافيا والتاريخ، والجنس واللون، والأرض واللغة، والمناخ والبيئة، انطلقوا به إلى الرحابة العالمية، فكانوا نماذجه التطبيقية التي تثير الاقتداء، في المواقع كلها، والظروف كلها، والحالات الثقافية والبشرية كلها.
لقد كانوا نماذج عالمية إنسانية، امتدوا بالإسلام في كل الاتجاهات، وعلى مختلف الأصعدة.. استوعبوا كل الثقافات والحضارات والأديان، واستطاعوا الإنتاج والبناء الإسلامي في كل المواقع، مما يؤكد عالمية الإسلام، وإنسانية الإسلام، حتى إن الحضارة الإسلامية في مصبها الأخير، كانت مُشْتَركًا إنسانيًا متشابكًا، يصعب معه فرز ألوانها أو عناصرها أو أجناسها.. هـي إسلامية القيم والمنطلقات، عالمية العطاء البشري.
[ ص: 13 ]
بينما نرى الحضارات التي ظهرت على مسرح التاريخ البشري، سواء السائد منها والبائد، كانت حضارات خاصة بقوم، أو جنس، أو جغرافيا، ولم ترتقِ إلى مستوى المشترك الإنساني.. فهي إما: حضارة يونانية، أو رومانية، أو فرعونية، أو فينيقية، أو فارسية، أو أوربية...الخ، على عكس الحضارة الإسلامية، التي هـي في مبادئها وممارساتها، حضارة إنسانية، تحقق فيها ولها المشترك العالمي، الأمر الذي يصعب معه وصمها بالعنصرية، أو الإقليمية، أو العرقية...الخ.
من هـنا نقول: إن جيل الصحابة، الذي كان له فضل السبق في إظهار الإسلام، ومن ثم ظهوره وامتداده، ليس خاصا بأمة، أو جنس بشري، أو جماعة، أو بيئة، أو تاريخ.. إنهم نماذج عالمية الأداء، إنسانية العطاء، بما تحمل من قيـم الإسـلام العالميـة والإنسانيـة، لـذلك لا يقتصر التأسي بهم، وتلمس جوانب العظمة -فيما نرى- على الأمة المسلمة، أو معايرة العظمة في إطارها، لأن ذلك مجافاة للحقيقة، وبخس للأشياء، ومحاصرة لإظهار الدين، ونماذج ظهوره اليوم.
ذلك أن جيل الصحابة رضوان الله عليهم، بما تحقق لهم من الخصائص والصفات، وما تمثل على أرض الواقع لهذه الصفات، يشكلون نماذج الاقتداء والإشعاع، والارتكاز الحضاري، على المستوى العالمي.
ونستطيع القول: إن الفائدة من جيل الصحابة لم تتحقق بالأقدار المطلوبة،
[ ص: 14 ] وأن الانحياز لهذا الجيل المرضي عنه من الله عليه السلام ، والمشهود له بالخيرية من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما جاء في معظمه عاطفيا، تتحكم به عقدة الافتخار بالماضي، لمواجهة مركب النقص أمام الاستلاب الحضاري والثقافي، والعجز عن الإنتاج.. أو بمعنى آخر، جاء هـذا الانحياز لتحقيق الحماية دون التنمية، لذلك فهو أقرب لثقافة الاستهلاك منه لثقافة الإنتاج، ولذلك لم يسهم بتغيير الحال الإسلامي، إلى درجة يمكن أن نقول معها: بأن جيل الصحابة لم يأخذ البُعْد المطلوب، من ثقافة المسلمين وتربيتهم، ولم تنعكس خصائصهم وصفاتهم التي كانت سبب خيريتهم والرضى عنهم، على مناهج التعليم، والإعلام، والثقافة، والتربية، لتحقيق التأسي المطلوب، وصناعة الثقافة والتربية للأمة، وإنما اتجهت الخطب والكتابات والدروس والوعظ والإرشاد، إلى الفخر بهذا الجيل -وهو مما يُفتخر به لا شك- والتعاظم بإنجازاته، دون القدرة على استنباط الأسس، والقواعد، والمناهج، وجوانب العظمة، وكيفيات بنائها في الجيل المسلم.
وعلى أحسن الأحوال، كانت الكتابات والدراسات الإسلامية لهذا الجيل، يغلب عليها الطابع والمنهج التسجيلي، التصويري، التفسيري، لا الطابع والمنهج التحليلي، الذي يستطيع تجريد معاني الخلود، وتخليصها من قيود الزمان والمكان، والأشخاص، والامتداد بها، لتمثل روائز ومنطلقات تربوية وثقافية للجيل في كل زمان ومكان.
[ ص: 15 ]
هذا من وجه، ومن الوجه الآخر، جنحت معظم الكتابات الإسلامية حول التعامل مع هـذا الجيل، على أنه نماذج اقتداء على المستوى الإسلامي أو العربي، دون الالتفات إلى البعد الحقيقي إلى الوظيفة المهمة والأساسية، وهي أن هـذا الجيل يشكل نماذج عالمية وإنسانية، سواء فيما تمثل من قيم، أو بما قدَّم من عطاء.. فعظمة هـذا الجيل ليست على المستوى العربي الإسلامي، وإنما هـي أيضًا على المستوى الإنساني العالمي، فهم وَرَثَةُ النبوة، وهم حَمَلةُ الرحمة للعالمين.. هـم حملة الرسالة العالمية الخالدة، وقاعدتها البشرية الأولى، ونماذجها التطبيقية، التي تشكل تراثًا إنسانيًّا ومراكز إشعاع عالمي.
لذلك نرى كثيرًا من تلك الكتابات التي حاصرت نفسها بظرف الزمان والمكان، وتحدثت عن جيل الصحابة وعظمته، وتألقه في إطار الزمان، الذي عاشوا فيه، عجزت عن الامتداد بجوانب العظمة وخصائص البطولة، وأسباب التألق، لتكون منارات هـادية للأجيال في كل زمان ومكان، يمكن أن تقترب منها، فهي في عمومها اقتصرت على الافتخار بتلك العظمة، دون تربيتها على القدرة للاستفادة منها وتجسيدها في واقعها، اللهم إلا ما كان من دراسات انتقائية، وقراءات مغلوطة، جاءت من الخارج الإسلامي، أغرقت الساحة الفكرية بأهداف وأفكار، وأيديولوجيات وفلسفات دخيلة وغريبة عن طبيعة عقيدة الأمة ومعادلتها الاجتماعية.. أرادت أن توجد لها التغطية التراثية أو
[ ص: 16 ] المشروعية من التراث، وعلى الأخص من فترة جيل القدوة والتأسي، للتسلل إلى الداخل الإسلامي، متجاوزة أسوار الغربة، ومخترقة التحصينات الفكرية الإسلامية.
وبالإمكان القول: إن هـذا الجيل، أو هـذا التراث، قُرئ تارة بأبجدية رأسمالية، وأخرى بأبجدية ماركسية، وثالثة بأبجدية علمانية، وأخرى بأبجدية باطنية، ويكفي أن نقول: إن ما سمي في فترة من الفترات باليسار الإسلامي، وأفرز بعض المؤلفات التي تسللت إلى المكتبة الإسلامية ووجدت مكانًا لها بسبب الفراغ، حاول ممارسة الانتقاء والإسقاط ليجد لنفسه موطن قدم، ولأفكاره بعض المشروعية، سقط هـذا جميعه، على الرغم مما ترك من بعض الضحايا والإصابات، لأن هـذا الجيل المشهود له بالخيرية، هـو أنموذج هـذا الدين التطبيقي، الذي يتجدد باستمرار، ويستأصل نوابت السوء وأنماط الفهوم المعوجة، وينفي عن نفسه الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.
وقد لا نحتاج إلى ذكر الأمثلة من الكتابات التي قسمت الصحابة إلى يسار ويمين، وذكرت قائمة من الصحابة (اليساريين) ، وأخرى من الصحابة (اليمينيين) ، وحاولت تفسير تاريخ الصحابة من خلال فلسفة الأنظمة، التي انطلقت منها، وانحدرت إلينا، الأمر الذي يمكننا من القول: إن فتاوى السلطان، وتطويع النصوص، والانتقاء والإسقاط، لم يقتصر على الفتاوى الفقهية، وإنما تجاوز إلى الطروحات الثقافية
[ ص: 17 ] أو الفتاوى الثقافية -إن صح التعبير- وهي الأخطر، لأنها تصنع القابليات، وتشكل العقول، وتضلل الآراء.
وتبقى القراءات المطلوبة والغائبة، هـي القراءات والمراجعات من خلال ميزان الكتاب والسنة، في تحديد الخطأ والصواب، والضعف والقوة، في واقع التدين، لأن الله الذي اصطفى هـذا الجيل، وأورثه النبوة والكتاب، أخبر عن الفوارق الفردية في التدين، فقال الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=32 ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (فاطر:32) .
إنها حالات بشرية دائمة ومتكررة، أو لازمة باستمرار، لتكامل الحياة وتماسك شبكة العلاقات الاجتماعية، ولو لم يكن ذلك كذلك لما تحقق لجيل الصحابة موقع القدوة، ومرتكز التأسي.
أما دراسة هـذه الحقبة بروح عدوانية حاقدة، والضغط على مواطن الخلاف والتضخيم لها، والتقاط بعض الجزئيات وتعميقها، ومحاولة رؤية هـذا الجيل من خلالها، وتصوير هـذا الجيل المشهود له بالخيرية، على أن حياته كيد وتآمر، ومكر، وحرب، واغتيالات، واستئثار بالحكم والرأي، وتصفية الخصوم، والتقاط الروايات الضعفية والهالكة والساقطة، ومحاولة تجاوز البشرية وطبائعها، إلى الملائكية، والمعايرة بها، لنقض الأساس الذي تقوم عليه المرجعية الإسلامية، والنيل من
[ ص: 18 ] جيل خير القرون، وإيجاد الحواجز النفسية بين الأجيال المتعاقبة وميراثها المرجعي، وإبراز عناصر التألق والإنجازات الديمقراطية والإنسانية في الحضارات والثقافات الأخرى، لاغتيال الجيل المسلم واستلابه، فحديثه يطول!!
وقد يكون هـذا الحال الثقافي، بما يمتلك من وسائل الإعلام، ووسائل التشكيل الثقافي الأخرى، هـو أخطر فتنة للجيل المسلم، الذي لا يجد نفسه في تاريخه، ولا في واقعه، وإنما لا يجد نفسه إلا عند (الآخر) ، الذي قد يمنح له هـوامش من الحرية، فما يقوله في الأسواق، والإعلام، والأندية، والمؤسسات الفكرية هـناك، قد لا يستطيع أن يقوله في أي مكان في بعض بلاد العالم الإسلامي.
وبالمقابل نجد من رفع بعض الصحابة عن مقام البشرية، وادعى له العصمة عن الخطأ في كل شأن، ورأي، واجتهاد، فتجاوز به مقام النبوة، في حدود وأبعاد العصمة، ورفعه إلى مقام الألوهية، كما هـو الحال في إصابات التدين التي لحقت بأصحاب الأديان السابقة!!
ولم يختلف الحال من حيث النتيجة، بين من حاول إلغاء وإسقاط حقبة الصحابة من أعداء الدين، لأنها مرحلة الفتن والخصومات والاقتتال، فهي لذلك لا تليق بموقع التلقي والتأسي ومعالجة الواقع (!!) وبين من رفع الصحابة عن مستوى البشر إلى مستوى
[ ص: 19 ] العصمة، وناط العطاء بالمعصوم، وغيب هـذا المعصوم عن واقع الأمة، والإجابة عن إشكاليات حاضرها، والتحضير لمستقبلها.
ولعل المشكلة كلها في الكثير من دراسات الداخل الإسلامي لهذه الحقبة، إنما تتمثل في منهج التعامل، وأدوات الفحص والاختبار والنقد والمراجعة والتقويم.. المشكلة مشكلة منهج أولا وقبل كل شيء، وإذا لم يصوب المنهج فسيبقى الإنتاج مختلا.
لذلك نقول: إن هـناك بعض المسلمات أو المرتكزات الأساسية، التي تشكل نقاط الانطلاق المنهجية، وهذه المسلمات مقررة وثابتة بالتواتر، أو ما يشبه التواتر.
فجيل الصحابة، جيل رضي الله عنه، وأنزل السكينة عليه، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية.
والمعروف عقلا وشرعًا، أن الله لا يرضى إلا عن عبدٍ علم أنه يوافيه على موجبات الرضا، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدًا ، كما يقول
ابن تيمية رحمه الله.
ويقول أبو نعيم: فمَنْ أسوأ حالا ممن خالفَ الله ورسولَه، وآب بالعصيان لهما، والمخالفة عليهما ؟! ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه بأن يعفو عن أصحابه، ويستغفر لهم، ويخفض لهم الجناح؟) (الإمامة لأبي نعيم، تحقيق علي فقيهي) .
[ ص: 20 ]
لذلك فإن الخوض في البحث في تاريخ الصحابة، دون امتلاك منطلقاته ومؤهلاته وأدواته، من القدرة على التحقيق في الروايات، وتحريرها ونقدها، والتمكن من معايير الجرح والتعديل، والنظر في هـذه الحقبة من خلال تقويم الكتاب والسنة لها، والمنهج نفسه، الذي وضعه المحدثون، وخاصة بالنسبة لهذه الحقبة دون سائر حقب التاريخ الإسلامي، قد يوقع بالفتنة والاضطراب، وانتقاص الصحابـة خير القرون، من حيث لا يعلم.
ولا بد هـنا من الإشارة إلى قاعدة منهجية علمية تربوية تعليمية مقررة، وهي أن لا يُعْرَضَ على الناس من مسائل العلم، إلا ما تبلغه عقولُهم، قال
الإمام البخاري رحمه الله: (باب من خَصَّ بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا) (فتح الباري 1 / 199 ) . " وقال
علي رضي الله عنه : حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ الله ورسوله؟ " قال
الحافظ في الفتح تعليقًا على ذلك: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يُذكر عند العامة ) .
ومثله " قول
ابن مسعود رضي الله عنه : ما أنت محدِّث قومًا بحديث لا تبلغه عقولُهم، إلا كان لبعضهم فتنة (رواه
مسلم ) . "
لذلك لا بد من التحقق والتثبت من الروايات المذكورة حول الفتن، ومن ثم دراستها وتحليلها، بعد فحص إسنادها، والتعامل مع متونها، من خلال تحكيم قيم الدين في الكتاب والسنة، لبيان الخطأ في الاجتهاد.
[ ص: 21 ]
والمعروف عند أهل العلم، أن أكثر النقول من المطاعن، يرويها المعروفون بالكذب، مثل
أبي مخنف لوط بن يحيى ، ومثل
هـشام بن محمد بن السائب ...الخ.
لذلك لا يجوز من الناحية العلميـة والموضوعيـة والمنهجيـة رد ما ورد بالتواتر في فضل الصحابة، وخيريتهم، وخصائصهم، بنُقُولٍ بعضها منقطع وبعضها محرف.. وحتى لو سلم السند في بعض الأحيان، فلا بد من فحص المتن بمعيار الكتاب والسنة.
فالقاعدة المعروفة عند العلماء، هـي الحكم بشذوذ الحديث وردِّه، إذا خالف الثقة من هـو أوثق منه.. فكيف إذا خالفت الروايات التاريخية، النصوص المتواترة، التي شهدت بالفضل والخيرية والرضا؟!
ولما كان الصحابة بشرًا من البشر، الذي يجري عليه الخطأ والنسيان والصواب، وكانوا مادة التنزيل الخالد وأوعيته، التي تمثل النماذج العملية لتعامل البشر مع المقدس، أو لتعامل الإنسان مع نصوص الوحي، وتبين أقدار التدين، بكل ما يعتريها من هـبوط وارتقاء، لذلك كله فإن ما يقع منهم من خطأ وتوبة وعودة إلى الحق، وانصياع للصواب، مطلوب أيضًا كوسائل معينة على التأسي، والاقتداء، لاكتمال البناء في كل الظروف والأحوال، التي تعرض لها المسيرة البشرية.
[ ص: 22 ]
ولعل من القضايا المهمة والأساسية في تقديري، ونحن بصدد رؤية بعض الآفاق المستقبلية، التي تقتضي منا استشراف الماضي، وخاصة مرحلة التأسي، مرحلة خير القرون، سعيًا في أن يعيننا ذلك على الانطلاق الحضاري من خلال دراسة ظروف وشروط وممارسات الولادة الأولى لمجتمع خير القرون، ونماذجها المتألقة التي تشكل بحق المرتكز الحضاري، والإشعاع الثقافي، والمرجعية والمعيارية، المشهود لها، بالنسبة للمسيرة الإسلامية في كل عصر، أن نتوقف قليلا عند بعض التأملات في النقلة النوعية التي حققها الإسلام في حياة هـذا الجيل على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفيات التربية النبوية له، وصور التعامل مع جميع الظروف والأحوال والأشخاص، وكيف تحققت شهادة الرسـول صلى الله عليه وسلم لهذا الجيل، ليصبح مؤهلا لأن يشكل المرجعية، وبالتالي التصويب والشهـادة علـى النـاس:
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=78 ( وَفِي هـذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (الحج:78) .
وقد يكون من أبرز القضايا التي تستدعي التوقف والدعوة إلى التأمل الطويل، هـي أن العملية التربوية، أو المدرسة النبوية في التربية، تعاملت مع كل الأعمار، تعاملت مع الإنسان طفلا، ومراهقًا، وراشدًا، وكهلا، وشيخًا، وذكرًا وأنثى، واستطاع الإسلام فعلا أن يشكل عطاءً لهؤلاء جميعًا في كل ظروفهم وأحوالهم.. ونستطيع أن نقول: إنه تعامل مع الإنسان من خلال الاستطاعة، والحالة التي هـو عليها،
[ ص: 23 ] فلم يرفض أحدًا، بحيث لم يُبْقِ إنسانًا خارج الخطاب الإسلامي، فتحققت الاستجابات من الشباب والشيوخ، والذكور والنساء، والأطفال، وكل وجد نفسه في الإسلام.. لذلك نلاحظ أن جيل الصحابة، الذي تربى على عين النبوة، يشكل نماذج لهؤلاء جميعًا، كما أن الإسلام تعامل مع الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية جميعها.. وبذلك تأهل جيل الصحابة، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم ، وزكاه اللهُ ورضي عنه، ليكون شهيدًا على الناس، كما أسلفنا.
وقدم الأنموذج للتعامل مع كل الثقافات، والحضارات، والبيئات، والمناخات، والظروف والأحوال، وكان قادة الفتح نماذج مضيئة للإسلام، بعد أن تربوا في مدرسة النبوة، لتصبح هـذه التربية دليلا لإعادة البناء.. تمت هـذه التربية، وعلى مختلف الأصعدة، ومختلف الحالات، في فترة ثلاثة وعشرين عامًا، فكانت أمة من خلال كتاب ونبوة، ممتدة على الزمن، وهذه المدة قد لا تكفي لزراعة شجرة ورعايتها.
لذلك عندما نقول: بأن المعجزة الإسلامية -القرآن وبيانه النبوي- تمثلت أو تحققت في إنتاج هـذا الجيل الأنموذج، لا نعني بأنها أنتجته من خلال القفزات من فوق السنن الجارية وعزمات البشر والأسباب والأقدار التي شرعها الله، وإنما نعني أنها تميزت بتعاملها مع السنن
[ ص: 24 ] والاستطاعات البشرية، ولم تخرق السنن.. أو بعبارة أخرى، لم تتعامل مع السنن الخارقة، لذلك لم تكن كمعجزات الأنبياء السابقين، مادية وخارقة للعادة، مما يلمح إلى توقيتها وانتهائها بغياب الأنبياء، على الرغم من أنه كانت للنبي صلى الله عليه وسلم معجزات مادية خارقة للعادة أيضًا، إلا أنها لم تعتبر المعجزة، لأن الإيمان بها نوع من الإيمان بالغيب، لعدم شهودها والتعامل معها، وإنما اعتبرت المعجزة هـي القرآن، الذي لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، وهو في الوقت نفسه مستمر وخالد، يمكن تنزيله والتعامل معه في كل عصر، من خلال عزمات البشر واستطاعاتهم.
لذلك قلنا: بأن المعجزة الإسلامية، جاءت لتأكيد السنن وليس لخرقها.. ولو لم يكن ذلك كذلك، لكان التجديد وإعادة الإنتاج يمثل إشكالية يصعب تجاوزها، وكان بحاجة إلى نبي مرسل، وإنما كانت المعجزة الإسلامية، في تنزيلها على الواقع، تأكيدًا للسنن الجارية، وتعاملا معها، وليس خرقًا لها.
ولئن كانت المعجزات المادية خرقًا للأسباب، ودليلا على قدرة الله ووجوده، فإنها من وجه آخر، دليل على اطراد الأسباب، وأنه لا يملك تعطيلها إلا الله الذي خلقها، فإن المعجزة الإسلامية وخلودها، وامتدادها، يكمن في أنها تعاملت مع السنن الجارية، وأكدت اطرادها،
[ ص: 25 ] وتحققت من خلال عزمات البشر، الذين أدركوها وأحسنوا تسخيرها، فكان جيل الصحابة رضي الله عنهم ، الذي يشكل دليل التعامل، وسبيل إعادة البناء في كل زمان ومكان، تتوفر له الظروف وتتحقق فيه إمكانات ومؤهلات التسخير.
وبعد: فهذا الجزء الثاني من كتاب: (عمرو بن العاص رضي الله عنه .. القائد المسلم والسفير الأمين) ، نقدم من خلاله أنموذجًا متميزًا من الصحابة الكرام، كان جاهليًّا تعامل مع الجاهلية، لكنه تحول إلى الإسلام، على بصيرة واختيار، فَجَبَّ الإسلامُ ما قبله، وبدأ إنسانًا آخر، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا، ومن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام.. كان قائدًا فاتحًا ينشر الإسلام ويبشر به، ويحسن سياسة أهل البلاد المفتوحة، وكيفيات التعامل معهم، وحسبه أنه أَصَّلَ للحضارة والثقافة الإسلامية في مصر الفرعونية، وإفريقية الوثنية.. كان واليًا، وسفيرًا، وراوية للأحاديث، وخطيبًا، وفقيهًا، وسياسيًّا من الطراز الرفيع.. رجل المآزق والمهمات الصعبة والمواقف الحرجة، وحسبه أنه كان صحابيًّا جليلا، صالحًا، ذا مال صالح، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذجًا ودليلا للتعامل المتوازن:
( نعما بالمالِ الصالحِ للمرء الصالح ) (رواه
أحمد ) .
[ ص: 26 ]