تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداعبده ورسوله.
وبعد: فقد كنا طرحنا في تقديمنا لكتاب الأمة الأول " مشكلات في طريق الحياة الإسلامية " للشيخ محمد الغزالي ، أننا نرى من أولى اهتماماتنا المساهمة في تحقيق الوعي الثقافي الإسلامي، وإعادة [ ص: 7 ] بناء عالم الأفكار، والدعوة إلى وضع ملامح تخطيط ثقافي إسلامي ( إستراتيجية ثقافية ) يعيد بناء التصاميم الذهنية الإسلامية ويوفر الطاقات ويهندسها، ويضعها في المجال المجدي، لتنتهي بذلك مرحلة الرسم بالفراغ، التي ورثناها عن مراحل التخلف، وساهم في تكريسها الغزو الثقافي، الذي لا نزال نعاني من آثاره على أكثر المستويات، بالرغم من الدعاوى الكثيرة التي تريد أن تثبت عكس ذلك، ويبقى المطلوب دائما مزيدا من إلقاء الأضواء الإضافية على جوانب المشكلة الثقافية، للوصول إلى إعادة صياغة وتشكيل العقل المسلم، أو إعادة ترتيب العقل العام لمسلم اليوم، وتخليصه من النظرات الجزئية المتناثرة، وعجزه عن مواجهة مشكلاته وتحدياته الداخلية منها والخارجية على حد سواء، على ضوء رؤية إسلامية ذات إخلاص وصواب، ودراية وفقه، يتحقق فيها طرفا المعادلة التي استحال علينا حلها طيلة عصر التخلف والسقوط الحضاري والتي استعاذ منها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال:
" اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي. "
لذلك كان لا بد أن نحل المعادلة فنصل إلى مرحلة جلد التقي وعجز الفاجر.. بعيدا عن المواقف والتصرفات الانفعالية الخطابية، التي تحرك العاطفة ولا ترشد العقل، وتعتمد على التهويل والمبالغة، ولا تخدم القضية الإسلامية، بل على العكس قد تساهم مساهمة سلبية غير مقصودة في تخلف المسلمين.
إن محاولة إعادة ترتيب العقل المسلم، أو إعادة تشكيله أو صياغته، ومنحه القدرة على التخلص من بعض القيود والأسوار، قضية تجد في طريقها الكثير من الصعوبات والركام الذي قد يلبس الأمور ويغيب الرؤية الصحيحة للأشياء، والقدرة على إبصارها ومن ثم تصنيفها، إنها تتعلق بصميم المشكلة الثقافية التي نعاني منها بعد أن زرعت في نفوسنا [ ص: 8 ] القابلية لها وتواضعت عليها القرون.
لذلك كان لا بد من المعالجة المنهجية الحكيمة المتأنية الناضجة، ولا بد من تناول القضية من أكثر من طرف وإلقاء أكثر من ضوء إضافي عليها واستعمال أكثر من وسيلة، والصبر والاحتمال لما يمكن أن يحدث من خطأ في المقايسة والموازنة، ومن عجز الإبصار وعثرات على الطريق.
ولكن مع ذلك تبقى القضية ملحة بعد هـذا الواقع الثقافي الهجين الذي انتهينا إليه، والذي حمل إلينا ما يفيد وما لا يفيد، ما لنا وما ليس لنا، واختلطت فيه المفاهيم.
لقد أصبحت الحاجة ملحة لعملية التنقية الثقافية، وأصبحنا أحوج من أي وقت مضى إلى الذين يحملون عقل المهندس، ومبضع الطبيب، وحرقة الوالدة، على مستوى الفكر والثقافة، ليقوم بعملية الإخلاء والإملاء، أو عملية الهدم المسبوقة بمخطط واضح ومدروس لعميلة البناء لأن بعض الناس يحسنون الهدم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولأنه يتناسب مع طبائعهم وانفعالاتهم واستعجالهم لكنهم يعجزون ولا يحتملون البناء، لأن البناء يستدعي التأني والصبر والزمن والنضج.. وكلها متطلبات لا تقتضيها عملية الهدم. وتبقى المشكلة في بناء العقلية القادرة على البناء وفي تصويب مسار هـذه القدرة.
ونحن نعترف أن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوض وكسور وتقطيع، فصده عن المضي إلى غايته، وحال بينه وبين أداء رسالته، لا يمكن أن يعالج بكتاب أو مقال أو محاضرة أو بحث، وإنما يتعلق الموضوع بصميم المشلكة الثقافية، والمناخ الثقافي أو عالم الأفكار، الذي يشكل المحضن الصحي والضروري لإعادة تشكيل العقل وتربيته ومنحه القدرة على العطاء والحماية من الإنكسار.
من هـنا نعاود القول: [ ص: 9 ]
بأنه لا بد من أن تأتي المعالجة طويلة النفس، دائبة ومستمرة، تعطي من الزمن والمحاولة ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة، ورسم المنهج الصحيح وتعميق أبعاده، ومتابعة ذلك بأكثر من وسيلة ليتمثله الفرد المسلم فتحصل النقلة المطلوبة ونسترد المواقع المفقودة، ولا نخدع أنفسنا، أو نخادع بالفجر الكاذب الذي يعمي على كثير منا حقيقة النور، وسلامة الرؤية في تحقيق نصر موهوم.
إن العقل الذي لا يتحقق بالرؤية الشمولية الكاملة لا يمكنه الترتيب لانعدام الرؤية الدقيقة لسلم المشكلات التي تواجه عالم المسلمين، وبالتالي فلا يمكن له القيام بعملية " البرمجة " ، ولا يمتلك القدرة على التصنيف وإعطاء كل مشكلة علامتها ومكانها الذي تستحق والطاقة التي تحتاج، كما أنه لا يمتلك المقدرة على التمييز بين آثار المشكلات التي تنجم عنها وأسبابها التي أوجدتها، وأن معالجة الآثار تعني مزيدا من الارتكاس ومزيدا من هـدر الطاقات فلا بد من اكتشاف الأسباب والعلل ومعالجة هـذه الأسباب، وإلى أي مدى يمكن أن يكون الكثير من هـذه المشكلات الفرعية سوف تغيب عن عالم المسلمين إذا أحسنا تحديد أبعاد المشكلة العامة وبالتالي أحسنا تحديد أبعاد المشكلة العامة وبالتالي أحسنا معالجتها.
إن دعوتنا إلى إعادة صياغة العقل المسلم أو الوصول إلى العقل المرتب لمسلم اليوم هـي دعوى مزدوجة في حقيقة الأمر أو ذات بعدين رئيسين:
1- تصحيح التصور: وذلك بالقدرة على رؤية الخطوط الإسلامية والمسارات الإسلامية متواصلة متكاملة متوازية لا يصطدم بعضها بالآخر لتأخذ بعدها بضبط وربط.. والقدرة على تكوين العقلية [ ص: 10 ] التي تمتلك أبجديات الثقافة الإسلامية فتحسن القراءة الإسلامية التي تستطيع من خلالها أن تفسر الظواهر الاجتماعية تفسيرا إسلاميا، وتصدر عن تصور شامل للكون والحياة والإنسان، ولا تقع فريسة للتفسيرات غير الإسلامية، كما أنها لا تبقي مهوشة غير قادرة على التوازن والاعتدال.
2- تخليص العقل: من التركيز على النظرة الجزئية، لأن التركيز عليها يؤدي إلى آفات عقلية ليس أقلها العجز والانحسار كما ويؤدي إلى تضخيم دور بعض الفروع والجزئيات الأمر الذي يقتل الإبداع، ويصيب قدرة العطاء عند الإنسان، ويوقع في التقليد ويحرم صاحبه من الإفادة من جهود الآخرين سواء أكان ذلك بالتعامل مع التراث أم بالقدرة على استلهام الكتاب والسنة لمواجهته حاجات العصر المتجددة.
ونحن لا نريد هـنا بمطاردتنا لأصحاب النظرة الجزئية المولعين بالتبعيض، الملتزمين بالأبعاض، أن ندعوا إلى تسطيح المعرفة العلمية وتمديدها في عصر التخصصات الجزئية والعجز الفردي عن الاستيعاب والأداء الفردي الشامل والمجدي.
وإنما الذي نريد له أن يكون واضحا أن الكلام هـنا في مجال البنية الثقافية، وهي أمر آخر لا تشكل المعرفة العلمية الأكاديمية إلا حيزا بسيطا منه على ضرورته وأهميته.
لذلك نرى أنه لا بد من ثقافة عامة، ونظرة شمولية وعقل مرتب متوازن قادر على النظرة العامة إلى جانب التخصص العلمي ببعض الجوانب.. فالعلم شيء والثقافة التي تستطيع توظيف هـذا العلم والإفادة منه شيء آخر.
ويمكن لنا أن نأتي بمثال على ذلك: [ ص: 11 ]
إن العالم اليهودي الذي اخترع مادة متفجرة جاءت كثمرة لتخصصه العلمي، كان إلى جانب هـذا التخصص العلمي الدقيق يتمتع بثقافة توراتية ورؤية دينية توجه ملكاته وتوظف تخصصاته للعمل على تحقيقها وذلك في الوصول إلى أرض الميعاد وبناء الهيكل، إنه لم يكن عاجزا عن توظيف مخترعه العلمي من خلال تلك الثقافة، لقد فرض على الحلفاء في الحرب العالمية أنه سوف لا يبوح لهم بسر المخترع الذي يمكنهم من النصر ما لم يأخذ عليهم العهد في تأييد حق يهود في فلسطين .. وهذا الذي كان، وقدم هـذا العالم لأبناء دينه ما لم يستطع تقديمه جيش من الجهلاء أو العلماء الفاقدين للبصيرة والثقافة، والذين لا تزيد علومهم عن أن تكون نسخا جديدة مما قرأوا أو معاجم جامدة في المكتبة !!
أين هـذا من بعض مسلمي اليوم الذين جاءت مكوناتهم الثقافية ثمرة للسقوط الحضاري والتخلف الثقافي والعجز العقلي ؟! حيث يرون بأن أمر الدعوة إلى الله يتعارض مع متابعة التخصص العلمي فيدعون الجامعات وقد يكونون في السنوات الأخيرة ليتفرغوا بزعمهم إلى أمور نشر الدعوة الإسلامية، وكأن الجهل وعدم النبوغ العلمي أصبح في نظرهم ضربة لازب لنجاح أمر الدعوة الإسلامية !!!
إن الذي يرى الأمور " من فوق " بشكل عام قادر على تحقيق الانسجام وتقدير الحجوم والأبعاد وترتيب الاولويات والتمييز بين الأمراض والأعراض.
أين توهج العقل المسلم وقدراته الهائلة التي راه عليها الإسلام ؟!
أين العقل القائس القادر على إدراك علل الأشياء.. المتبصر بأحوال الأمم والجماعات.. القادر على فهم السنن الاجتماعية والأسباب.. المتتبع للمسار الحضاري في نشوء وسقوط الحضارات.. القادر [ ص: 12 ] على التمييز بين الوسائل والغايات، وحكم التشريع، والعلل التي هـي مناط القياس. المتدبر لقوله تعالى :
( ... فاعتبروا يا أولي الأبصار ... ) (الحشر:2) .. القادر على استيعاب الدرس التاريخي الخاص والعام المخاطب بقوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا.. ) (النساء:71) .
إن إعادة النظر من حين لآخر بسلم المشكلات، وإعادة تصنيف هـذه المشكلات وترتيب الأولويات حماية للجهد واغتناما لفرصة العمر، وتوفر الطاقات والموازنة الدقيقة بين الحاجات والإمكانات وعدم الخلط بين الحاجات والإمكانات وعدم الخلط بين الأمنيات والإمكانات، وإعادة النظر بالموقع الذي يمكن أن يكون فيه الفرد المسلم، والعاملون للإسلام، وإعادة النظر أيضا بوسائل الدعوة وتطويرها حسب حاجات العصر ومن خلال مشكلاته، وعدم الضرب في الحديد البارد، وجعل الاختصاص في خدمة العقيدة والتقدم في قضية الدعوة واكتشاف المنابر المؤثرة، والمواقع الجديدة التي أخذت مكانا ومكانة في المجتمع الحديث، والقدرة على دراسة شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتناع بأن التفوق العلمي والتخصص النادر الذي يتحصن صاحبه بالدين القويم هـو المطلوب لهذه الأمة، أصبح ضرورة لا غنى عنها.
لا بد من بناء عقلية البرمجة والتخطيط ودراسة الأسباب، وحصول النتائج واكتشاف مواطن الخطأ والعجز، وإعادة المحاولة أكثر من مرة، وقد نخطئ كثيرا ولا نظفر بالمطلوب في أكثر من جولة.. لكن على الأقل نطمئن إلى أننا وقفنا على الجادة وبدأنا طريق العودة إلى الإسلام. إن عطالة العقل المسلم -مسلم عصر التخلف- وإلغاءه تجاه مناقشة قضية صحة النتائج ومدى توافقها مع المقدمات بوحي من تصور إسلامي [ ص: 13 ] مغلوط، وسيبقى العقل يرواح مكانه لايبرحه ما لم يحرر من هـذه المعضلة ويدرك أبعادها بشكل دقيق وسليم.
صحيح أن أمر ترتب النتائج على المقدمات مملوك لله تعالى ومراد له، ولو لم يكن ذلك كذلك لانتفت صفة الألوهية، وصحيح أيضا أن الذي خلق قانون العلل والأسباب والسنن لا يمكن أن يحكم به، ومن هـنا كانت المعجزات التي أقل ما يقال فيها أنها خرق لقانون السببية وحصول النتائج دون وجود المقدمات، لكن من جانب آخر لا بد من الاعتقاد أن الله يحكم البشرية به ويحاسبهم على ضوئه، وإلا توقفت الحياة وتعطلت وظيفة الإنسان في الأرض القائمة أصلا على تعاطي الأسباب وإتقانها وحسن التعامل معها لتوصل إلى النتائج، وبطل التكليف وترتب الثواب والعقاب وسادت العبثية.
إن الله لا يحكم نفسه بالأسباب والسنن التي وضعها لكنه هـو الذي شرعها للمخلوق ليحاكمه على ضوئها، إن الأمر يتعلق بأصل قضية التكليف، ولو عدل المخلوق عن هـذه السنن التي شرعها الله إلى غيرها من صناعة البشر لكان محل مساءلة.
إن عدم مناقشة ومراجعة ترتب النتائج على المقدمات أو المسببات على الأسباب تحت شعار " ليس علينا إدراك النتائج " ، والاستسلام بهذه السهولة يفقدنا عملية الصواب والتصويب التي لا تتحصل إلا بالعودة إلى دراسة الثغرات التي كانت سببا في تخلف النتائج واستدراكها:
( ... قل هـو من عند أنفسكم ... ) (آل عمران: 165)
وإن الإيمان والالتزام.. بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( ... وإذا أصابك شئ فقل قدر الله وما شاء فعل... ) لايعني الاستسلام وإنما يعطي نوعا من الإيجابية حتى لا تمتد العطالة والإصابة إلى المستقبل، إنه لا يلغي الفاعلية القائمة على تعاطي السنن أصلا للتوصيل [ ص: 14 ] إلى النتائج المطلوبة، وإنما يوفر الطاقة ويحول دون العجز والسقوط والبكاء على الأطلال.
إن كون النتائج وحصولها أو عدم حصولها من قدر الله أمر يوازي قضية السببية ولا يصدم بها؛ لأن الأسباب الموصلة إلى النتائج هـي من قدر الله وسننه في الحياة أيضا.
من هـنا تأتي ضرورة إعادة ترتيب العقل المسلم اليوم على ضوء فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه " عندما سئل بعد تحوله برعيه من الوادي المجدب إلى الوادي المخصب ليؤمن لغنمه المرعى الصالح: كيف تفر من قدر الله ؟ فيقول: فررت من قدر الله إلى قدر الله... "
أما الفهم النصفي العليل بأن علينا تعاطي الأسباب وليس علينا مناقشة مدى ترتب النتائج على هـذه الأسباب فقضية خطيرة تزري بالعقل المسلم وتتعارض مع سنن الله في الحياة والأحياء التي أمرنا بالتزامها..
إن تسلل مثل هـذه القضية الخطيرة إلى حياة المسلمين دفعهم إلى الاستسلام المرفوض شرعا وعقلا، ولقد استراح عقل مسلم اليوم إلى هـذه المقولة التي جاءت ثمرة لعصر التخلف لأنها تعفيه من المسئولية تجاه القضايا التي يخفق فيها، وتعفيه من إعادة النظر لاكتشاف الثغرات وتسديدها؛ لأن الأمر ليس بمقدوره وإنما هـو من قدر الله.
كما أعفى نفسه من الاستشعار بالمسئولية من وجه آخر بإلقاء التبعة على الآخرين في تقصيره وأخطائه دون أن يدري أنه نحى نفسه ظاهرا ليقع بما هـو أسوأ وذلك بالحكم على نفسه أنه دون سوية المرحلة ودون سوية التعامل مع هـذه المرحلة أيضا !!
لقد هـزم المسلمون في أحد وكان على رأس الجيش أكرم الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لا نزال نتلو أسباب الهزيمة النفسية والمادية إلى اليوم [ ص: 15 ] منذ خمسة عشر قرنا، أليست هـذه التلاوة لتحقيق الاعتبار والتعرف على السنن لئلا نقع بما وقعوا به. أم هـل يعيش بعض مسلمي اليوم فوق هـذا المستوى!!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وأين وضعه. )
إنه التصرف المبصر بالطاقات التي ملكنا الله إياها، وحسن الاستفادة من القدرات التي أتى الحديث على ذكر نمازج منها وحسن التصرف بها مع الاستشعار بالمسئولية عنها.
إن قضية إدراك الأولويات وحسن قراءة الظروف وتحديد الامكانات من أهم الأمور التي يجب التنبه إليها، ذلك أنها من هـدي هـذا الدين حيث نجد في تشريعه الفرض وهو أعلى أنواع التكليف، ونجد الواجب والسنة والمستحب والمندوب والمباح .. هـذا في إطار الأمر، ويقابله أيضا في مجال النهي مراتب متعددة للمنهي عنه، وإن الله تعالى لن يقبل من الفرد نافلة ما لم يؤد الفريضة.
إن هـذه " الجدولة " إن صح التعبير أصبحت غائبة عن حياة كثير من المسلمين وحتى بعض العالمين للإسلام، فنراه يعيش من وراء بعض الجزئيات والفروع وبعض التكاليف الشرعية التي تكون في مرتبة السنن والنوافل والمستحبات، ويقاتل في سبيلها وقد يقع في الحرام في سبيل الإصرار على تحصيلها، كما أنه قد يفوت فرضا أو حقا لمسلم في سبيل الانتصار لمندوب.
إن الانشغال بالجزئيات ووضعها في غير موضعها من سلم التكاليف الشرعية بالإضافة إلى أنه دليل على إصابة العقل وقصوره، ودليل أيضا على القابلية لاستمرار التخلف.. الأمر الذي يمكن للخصوم من نجاح عملية الغزو الفكري الذي كان هـمه ودأبه دائما أن يحرضنا ويثيرنا ويوجهنا [ ص: 16 ] صوب مشكلات هـامشية جزئية يشغلنا بها ليتفرد هـو بفعل ما يشاء..
إن ترتيب الشخصية المسلمة وصياغتها وفق معطيات الكتاب والسنة لتجيء شخصية متفردة متميزة قادرة على العطاء، ووضع الضوابط الصارمة للتصور والسلوك كان من القضايا المحورية التي تركز عليها الكثير من الآداب والأحكام والتدريب عليها من خلال العبادات والطاعات، وكانت عهدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أنيطت بكل مسلم في المجتمع الإسلامي ليكون حارسا أمينا عليها ضرورة لازمة لحمايتها وضمان استمرارها.
إن مواقيت الصلاة، ومقادير الزكاة، وحساب الأهلة، وأحكام الأداء والقضاء، والحول، والفوات... وكل الضوابط دليل على تنظيم الشخصية أو وضعها ضمن مناخ التنظيم وإدراك الأشياء ومدى أهمية أدائها في وقتها وكيف أن عامل الوقت جزء هـام من العملية الحضارية إلى جانب التعرف على السنن وحسن التصرف بالطاقات.. هـذه الشخصية التي كانت قبل الإسلام تعيش سائبة بلا قيود ولا حدود ولا ضوابط..
لقد طرح الإسلام من خلال القرآن والسنة، رؤية جديدة للحياة، رؤية تبدأ في داخل الإنسان في عقله وقلبه وروحه ووجدانه وغرائزه وميوله، وتنتهي في خارجه لكي تصوغه إنسانا جديدا متفوقا قادرا على التغيير المطلوب في بنية العالم، والتحكم من خلال ما أبصر من السنن التي شرعها الله بالحركة التاريخية لإعادة البشرية إلى المنهج المتوافق مع سنن الله...
من هـنا تأتي أهمية هـذا الكتاب " إعادة تشكيل العقل المسلم " للأخ الدكتور عماد الدين خليل الذي نقدم له.
وإذا جاز لنا أن نقول : بأن الإنسان ينتهي اختياره إلى العمل الذي [ ص: 17 ] يحسنه، وقد هـيأه الله لذلك ( فكل ميسر لما خلق له ) ، وقلنا بأن الأعمال تصطفي القادرين على القيام بها من الناس فيمكن أن تصدق هـذه المقولة على أخينا الدكتور عماد الدين الذي يمكن أن تصنف كتاباته جميعا ضمن إطار إعادة صياغة العقل المسلم، حيث امتلك من الصفات والمزايا إلى جانب طبيعة التخصص العلمي ما يؤهله للعطاء في مثل هـذا الموقع وكأن بين مزاياه الشخصية وتخصصه تواعد والتقاء.
لقد قدم تجربة رائدة في محاولة لتطبيق المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ والسيرة، المنهج الذي يقوم على التوازن بين الذات والموضوع، ويسعى إلى إحياء الموقف التاريخي، ويستهدف النظرة الكلية للأحداث والحركات والأشياء، المنهج الذي يوضح كم هـي عظيمة نتائج اللقاء بين الأرض والسماء، كما أنه كان قادرا على نقد مناهج المستشرقين الذين كتبوا في التاريخ والسيرة من خلال امتلاكه المقياس الإسلامي الذي اكتسبه من القرآن الكريم.. ولعل محاولته الرائدة في كتابة التفسير الإسلامي للتاريخ تعتبر في مصاف المحاولات المتقدمة، والناجحة في هـذا المجال.
إنه يرى القرآن الكريم يقدم أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري والانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع فحسب إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية التاريخية كما فعل ابن خلدون على سبيل المثال فأعطى الإشارة لغيره من فلاسفة التاريخ الذين ما تلقوا إشارته تلك وبنوا عليها إلا بعد انقضاء سبعة قرون.. يقول:
لقد أكد القرآن على وجود سنن ونواميس تخضع لها الحركة التاريخية في سيرها وتطورها وانتقالها من حال إلى حال...
ويرى أن كثيرا من الباحثين وفلاسفة التاريخ المعاصر وقعوا في خطأ القول: بأن ابن خلدون هـو أول من مارس هـذا المنهج، وأنه لا توجد [ ص: 18 ] قبله أية محاولة في هـذا السبيل، ومن عجب أن ابن خلدون وقع في الخطأ نفسه عندما أكد في مقدمته أنه لم يعثر على أية محاولة في هـذا المجال، وكان أحرى به أن يبين ما يتضمنه القرآن من إشارات تدل على الطريق!
وتأتي ميزة كتب وكتابات الدكتور عماد الدين من أنه يكتب في المنهج بشكل عام ويؤكد على ذلك في كل المناسبات، ويبين دور المنهج الخطير في حركة الإنسان الفكرية والحضارية عموما، وأنه بدون منهج -الذي هـو ثمرة العقل المرتب- فليس ثمة طريق يوصل إلى الأهداف مهما بذل من جهد وقدم من عطاء، ويرى أن المنهج الذي يشكل العقل المسلم وفق مقولاته يقوم على السببية والقانون التاريخي، والبحث التجريبي...
والتحقق بالنظرة الشمولية التي منحها الإسلام للإنسان والتي جعلته قادرا على رد سائر المخلوقات إلى مصدر واحد، الانسجام مع التوحيد والقضاء على التفكك والتجزيء والتقطيع والتسطيح " الإله واحد والخلق واحد " .
ويقول:
" ... إن الإسلام لم يرد لنا يوما أن ننعزل عن الحياة ونتخذ إزاءها مواقف السلب والفرار، الإسلام حركة جهاد دائمة لتغيير العالم، لقد دعانا إلى النزول إلى الساحة من أول لحظة... " .
من هـنا نستطيع القول بأنه لم يؤمن بالموقف السلبي الانسحابي الذي يعني الرفض والانكسار، والذي انتهى إليه كثير من الناس.
لذلك كانت المواجهة بالنسبة له تعني أكثر من موقع وأكثر من وسيلة.. والمعالجة عنده جاءت لأكثر من قضية، ولعل هـذا هـو السبب في تعدد الاهتمامات وكثرة الجوانب التي كتب فيها وعرض لها في التاريخ والأدب والفكر والقصة، والنقد... وإن كانت جميعها تصدر عن معين واحد. [ ص: 19 ]
وإن إلقاء نظرة على مؤلفاته أو مكتبته إن صح التعبير لتدل دلالة واضحة على الاهتمامات المتنوعة التي يعيشها وتؤكد ما ذهبنا إليه من أنها جميعا تصدر عن معين واحد..
والحقيقة التي لا بد من تسجيلها أنه يتمتع بمعدة هـاضمة قادرة على التمثل الثقافي.. الأمر الذي لم يقتصر في كثير من الأحيان على الفكر العربي الإسلامي، وإنما تجاوز ذلك إلى تقديم نماذج من الفكر الأوروبي بشقيه الشيوعي والرأسمالي من خلال منظور إسلامي.
وإن كان هـناك من يرى بأن الدكتور عماد الدين لو وفر طاقاته لمتابعة نوع واحد من الثقافة وتعميق مفاهيم المنهج والإلحاح على ذلك وتقديم الدراسات والتطبيقات في ذلك لكان أنفع للمسلمين... على أية حال تبقى وجهة نظر لها ما يبررها.
ويبقى لنا أن نعود إلى القول:
بالرغم من اعتزازنا بهذا الكتاب، وبقدرة المؤلف على معالجة مثل هـذا الموضوع لا ندعي بأننا قدمنا الحل السحري للمشكلة التي يعاني منها العقل المسلم وإنما هـي صوى على طريق الحل، وتبقى القضية محتاجة إلى المزيد من الأبحاث والدراسات، ويبقى شعارنا في كتاب الأمة قولة سيدنا مالك رضي الله عنه : كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هـذا القبر صلى الله عليه وسلم ..
والله نسأل أن ينفع بهذا الكتاب ويجزل الثواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [ ص: 20 ]