أما علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) ففيه مسائل : قوله تعالى : (
المسألة الأولى : يقال : خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له ، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خانك ، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى الشر ، وخان الرجل الرجل إذا لم يؤد الأمانة ، وناقض العهد خائن ، لأنه كان ينتظر منه الوفاء فغدر ، ومنه قوله تعالى : ( وإما تخافن من قوم خيانة ) [ الأنفال : 58 ] أي نقضا للعهد ، ويقال للرجل المدين : إنه خائن ، لأنه لم يف بما يليق بدينه ، ومنه قوله تعالى : ( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) [ الأنفال : 27 ] ، وقال : ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل ) [ الأنفال : 71 ] ، ففي هذه الآية سمى الله المعصية بالخيانة ، وإذا علمت ، فقال صاحب " الكشاف " : الاختيان من الخيانة ، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة . معنى الخيانة
المسألة الثانية : أن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم ، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت في ماذا ؟ فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر ، والذي تقدم هو ذكر الجماع ، والذي تأخر قوله : ( فالآن باشروهن ) ، فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع ، ثم ههنا وجهان :
أحدهما : علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك ، ، لأنه جلب إليها العقاب ، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم ، لأن قوله : ( وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم ، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار ، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم ، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم ، ولأبي مسلم أن يقول قد بينا أن الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو خير للنفس وهذا أولى ، لأن الله تعالى لم يقل : علم الله أنكم كنتم تختانون الله ، كما قال : ( لا تخونوا الله ) [ الأنفال : 27 ] بل قال : ( كنتم تختانون أنفسكم ) ، فكان حمل اللفظ على ما ذكرناه إن لم يكن أولى فلا أقل من التساوي وبهذا التقدير لا يثبت النسخ .
القول الثاني : أن المراد : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) لو دامت تلك الحرمة ومعناه : أن الله [ ص: 92 ] يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال : التفسير الأول أولى ؛ لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال : بل الثاني أولى ، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف ، وعلى التقدير الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سببا لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة .
أما قوله تعالى : ( فتاب عليكم ) فمعناه على قول أبي مسلم فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النسخ لا بد فيه من إضمار تقديره : تبتم فتاب عليكم فيه .
أما قوله تعالى : ( وعفا عنكم ) فعلى قول أبي مسلم معناه وسع عليكم أن ، أباح لكم الأكل والشرب والمعاشرة في كل الليل . قال عليه السلام : " ولفظ العفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف " ، وقال : " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ، والمراد منه التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ، ويقال : أتاني هذا المال عفوا ، أي سهلا فثبت أن لفظ العفو غير مشعر بسبق التحريم ، وأما على قول مثبتي النسخ ، فقوله : ( أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله عفا عنكم ) لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوي أيضا قول أبي مسلم لأن تفسيره لا يحتاج إلى الإضمار ، وتفسير مثبتي النسخ يحتاج إلى الإضمار .