المسألة الثالثة : في قوله تعالى : ( فمن خاف ) قولان :
أحدهما : أن المراد منه هو الخوف والخشية .
فإن قيل : الخوف إنما يصح في أمر منتظر ، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف .
والجواب من وجوه :
أحدها : أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمدا بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق حقه ، أو يعدل عن المستحق ، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح ؛ لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل ، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم ، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة : أريد أن وأن أزيد فلانا مع أنه لا يكون مستحقا للزيادة ، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفا من حنث وإثم لا قاطعا عليه ، ولذلك قال تعالى : ( أوصي للأباعد دون الأقارب فمن خاف من موص جنفا ) فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم .
الوجه الثاني في الجواب : أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر ؛ لأن ، فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين ؛ لأن تجويز فسخه يمنع من أن يكون مقطوعا عليه ، فلذلك علقه بالخوف . الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان
الوجه الثالث في الجواب : أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي ، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ ، فلما كان ذلك منتظرا لم يكن حكم الجنف والإثم ماضيا مستقرا ، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين ، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى .
القول الثاني : في تفسير قوله تعالى : ( فمن خاف ) أي فمن علم . والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص ، وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة ، فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر ، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته ، وهذا قول الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمدا ابن عباس وقتادة والربيع .
المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ، ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك ، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين .