إخراجها عن الوقت ، وكون الإنسان غافلا فيها ، قوله : ( الذين هم يراءون ) يفيد المراءاة ، فظهر أن الصلاة يجب أن تكون خالية عن هذه الأحوال الثلاثة .
ثم لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلات فقال : ( ويمنعون الماعون ) وفيه أقوال :
الأول : وهو قول أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الحنفية وابن عمرو والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك : هو الزكاة ، وفي حديث أبي : من قرأ سورة ( أرأيت ) غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا وذلك يوهم أن ( الماعون ) هو الزكاة ، ولأن الله تعالى ذكره عقيب الصلاة ، فالظاهر أن يكون ذلك هو الزكاة .
والقول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين ، أن ( الماعون ) اسم لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني ، ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم ، ويدخل فيه الملح والماء والنار . فإنه روي : ثلاثة لا يحل منعها : الماء والنار والملح ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك ، أو يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم ، وأصحاب هذا القول قالوا : الماعون فاعول من المعن . وهو الشيء القليل ومنه ما له سعنة ولا معنة أي كثير و ( لا ) قليل ، وسميت الزكاة ماعونا ، لأنه يؤخذ من المال ربع العشر ، فهو قليل من كثير ، ويسمى ما يستعار في العرف كالفأس والشفرة ماعونا ، وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة ، فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة ، والمنافقون كانوا كذلك ، لقوله تعالى : ( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ) [ الحديد : 24 ] وقال : ( مناع للخير معتد أثيم ) [ القلم : 12 ] قال العلماء : ، فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على الواجب . ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران
والقول الثالث : قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون هو الماء وأنشدني فيه :
يمج بعيره الماعون مجا
ولعله خصه بذلك لأنه أعز مفقود وأرخص موجود ، وأول شيء يسأله أهل النار الماء ، كما قال : ( أن أفيضوا علينا من الماء ) [ الأعراف : 50 ] وأول لذة يجدها أهل الجنة هو الماء ، كما قال : ( وسقاهم ربهم ) [ الإنسان : 21 ] .
القول الرابع : ( الماعون ) حسن الانقياد ، يقال : رض بعيرك حتى يعطيك الماعون ، أي حتى يعطيك الطاعة .
[ ص: 109 ]
واعلم أن الأولى أن يحمل على كل طاعة يخف فعلها ؛ لأنه أكثر فائدة ، ثم قال المحققون في الملاءمة بين قوله : ( يراءون ) وبين قوله : ( ويمنعون الماعون ) كأنه تعالى يقول : الصلاة لي والماعون للخلق ، فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق وما هو حق الخلق يسترونه عنهم فكأنه لا يعامل الخلق والرب إلا على العكس ، فإن قيل : لم لم يذكر الله اسم الكافر بعينه ؟ فإن قلت للستر عليه ، قلت : لم لم يستر على آدم بل قال : ( وعصى آدم ربه ) ؟
والجواب : أنه تعالى ذكر زلة آدم لكن بعد موته مقرونا بالتوبة ليكون لطفا لأولاده ، أنه أخرج من الجنة بسبب الصغيرة فكيف يطمعون في الدخول مع الكبيرة ؟ وأيضا فإن وصف تلك الزلة رفعة له فإنه رجل لم يصدر عنه إلا تلك الزلة الواحدة ثم تاب عنها مثل هذه التوبة .
ولنختم تفسير هذه السورة بالدعاء : إلهنا ، هذه السورة في ذكر المنافقين والسورة التي بعدها في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، فنحن وإن لم نصل في الطاعة إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإلى أصحابه ، لم نصل في الأفعال القبيحة إلى هؤلاء المنافقين ، فاعف عنا بفضلك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .