( وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى )
[ ص: 184 ] أما قوله تعالى : ( وإن لنا للآخرة والأولى ) ففيه وجهان :
الأول : أن لنا كل ما في الدنيا والآخرة فليس يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم ، بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ولو شئنا لمنعناكم من المعاصي قهرا ، إذ لنا الدنيا والآخرة ولكننا لا نمنعكم من هذا الوجه ; لأن هذا الوجه يخل بالتكليف ، بل نمنعكم بالبيان والتعريف ، والوعد والوعيد .
الثاني : أن لنا ملك الدارين نعطي ما نشاء من نشاء ، فيطلب سعادة الدارين منا ، والأول أوفق لقول المعتزلة ، والثاني أوفق لقولنا .
أما قوله تعالى : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى )
تلظى أي : تتوقد وتتلهب وتتوهج ، يقال : تلظت النار تلظيا ، ومنه سميت جهنم لظى ، ثم بين أنها لمن هي بقوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) قال : نزلت في ابن عباس أمية بن خلف وأمثاله الذين كذبوا محمدا والأنبياء قبله ، وقيل : إن الأشقى بمعنى الشقي كما يقال : لست فيها بأوحد أي بواحد ، فالمعنى لا يدخلها إلا الكافر الذي هو شقي لأنه كذب بآيات الله ، وتولى أي : أعرض عن طاعة الله ، واعلم أن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار ، قال القاضي : ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه يقتضي أن لا يدخل النار ( إلا الأشقى الذي كذب وتولى ) فوجب في الكافر الذي لم يكذب ولم يتول أن لا يدخل النار .
وثانيها : أن هذا إغراء بالمعاصي ; لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لمن صدق بالله ورسوله ولم يكذب ولم يتول : أي معصية أقدمت عليها فلن تضرك ، وهذا يتجاوز حد الإغراء إلى أن تصير كالإباحة ، وتعالى الله عن ذلك .
وثالثها : أن قوله تعالى : من بعد ( وسيجنبها الأتقى ) يدل على ترك هذا الظاهر لأنه معلوم من حال الفاسق أنه ليس بأتقى ; لأن ذلك مبالغة في التقوى ، ومن يرتكب عظائم الكبائر لا يوصف بأنه أتقى ، فإن كان الأول يدل على أن ، فهذا الثاني يدل على أن الفاسق لا يجتنب النار ، وكل مكلف لا يجتنب النار ، فلا بد وأن يكون من أهلها ، ولما ثبت أنه لا بد من التأويل ، فنقول : فيه وجهان : الفاسق لا يدخل النار
الأول : أن يكون المراد بقوله : ( نارا تلظى ) نارا مخصوصة من النيران ; لأنها دركات لقوله تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء : 145 ] فالآية تدل على أن تلك النار المخصوصة لا يصلاها سوى هذا الأشقى ، ولا تدل على أن الفاسق وغير من هذا صفته من الكفار لا يدخل سائر النيران .
الثاني : أن المراد بقوله : ( نارا تلظى ) النيران أجمع ، ويكون المراد بقوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) أي : هذا الأشقى به أحق ، وثبوت هذه الزيادة في الاستحقاق غير حاصل إلا لهذا الأشقى . واعلم أن وجوه القاضي ضعيفة .
أما قوله ( أولا ) : يلزم في غير هذا الكافر أن لا يدخل النار ، فجوابه : أن كل كافر لا بد وأن يكون مكذبا للنبي في دعواه ، ويكون متوليا عن النظر في دلالة صدق ذلك النبي ، فيصدق عليه أنه أشقى من سائر العصاة ، وأنه ( كذب وتولى ) وإذا كان كل كافر داخلا في الآية سقط ما قاله القاضي .
وأما قوله ثانيا : إن هذا إغراء بالمعصية فضعيف أيضا ; لأنه يكفي في الزجر عن المعصية حصول الذم في العاجل وحصول غضب الله بمعنى أنه لا يكرمه ولا يعظمه ولا يعطيه الثواب ، ولعله يعذبه بطريق آخر ، فلم يدل دليل على انحصار طريق التعذيب في إدخال النار .
[ ص: 185 ] وأما قوله ثالثا : ( وسيجنبها الأتقى ) فهذا لا يدل على حال غير الأتقى إلا على سبيل المفهوم ، والتمسك بدليل الخطاب وهو ينكر ذلك فكيف تمسك به ؟ والذي يؤكد هذا أن هذا يقتضي فيمن ليس بأتقى دخول النار ; فيلزم في الصبيان والمجانين أن يدخلوا النار وذلك باطل .
وأما قوله رابعا : المراد منه نار مخصوصة ، وهي النار التي تتلظى فضعيف أيضا ; لأن قوله : ( نارا تلظى ) يحتمل أن يكون ذلك صفة لكل النيران ، وأن يكون صفة لنار مخصوصة ، لكنه تعالى وصف كل بهذا الوصف في آية أخرى ، فقال : ( نار جهنم كلا إنها لظى نزاعة للشوى ) [ المعارج : 15 ] .
وأما قوله : المراد إن هذا الأشقى أحق به فضعيف لأنه ترك للظاهر من غير دليل ، فثبت ضعف الوجوه التي ذكرها القاضي ، فإن قيل : فما الجواب عنه على قولكم ، فإنكم لا تقطعون بعدم وعيد الفساق ؟ الجواب : من وجهين :
الأول : ما ذكره الواحدي وهو أن معنى : ( لا يصلاها ) لا يلزمها في حقيقة اللغة ، يقال : صلى النار إذا لزمها مقاسيا شدتها وحرها ، وعندنا أن هذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر ، أما الفاسق فإما أن لا يدخلها أو إن دخلها تخلص منها . الكافر
الثاني : أن يخص عموم هذا الظاهر بالآيات الدالة على وعيد الفساق ، والله أعلم .