النوع الثاني : من دلائل المعتزلة : وهي في آيات إحداها : التمسك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام
قوله تعالى : ( وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 14 ] واعلم أن القاضي والجبائي وأبا الحسن يقولون : إن هذه الصيغة تفيد العموم ، وأبو هاشم يقول : إنها لا تفيد العموم ، فنقول : الذي يدل على أنها للعموم وجوه :
أحدها : أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام : " " والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قولنا : بعض الأئمة من قريش لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين . أما كون كل الأئمة من قريش ينافي كون بعض الأئمة من غيرهم ، وروي أن الأئمة من قريش عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر لما هم بقتال مانعي الزكاة : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " " احتج على أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله أبي بكر بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة : إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء ، فقال : إنه عليه الصلاة والسلام قال : " إلا بحقها " وإن كان الزكاة من حقها .
وثانيها : أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق ، فوجب أن يفيد الاستغراق ، أما أنه يؤكد فلقوله تعالى : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [ الحجر : 30 ] وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق ، فبالإجماع ، وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد في أصله للاستغراق لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد إجماعا ، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتا في الأصل ، فلو لم يكن الاستغراق حاصلا في الأصل ، وإنما حصل [ ص: 136 ] بهذه الألفاظ ابتداء لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية الحكم ، بل في إعطاء حكم جديد ، وكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة ، وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلا في الأصل .
وثالثها : أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار الاسم معرفة ، كذا نقل عن أهل اللغة ، فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة ، وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بصرفه إلى الكل ، لأنه معلوم للمخاطب ، وأما صرفه إلى ما دون الكل فإنه لا يفيد المعرفة ، لأنه ليس بعض الجمع أولى من بعض ، فكان يبقى مجهولا . فإن قلت : إذا أفاد جمعا مخصوصا من ذلك الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس ، قلت : هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام ، لأنه لو قال : رأيت رجالا ، أفاد تعريف ذلك الجنس وتميزه عن غيره ، فدل على أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق .
ورابعها : أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم .
وخامسها : الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر ، لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال : رأيت رجالا من الرجال ، ولا يقال رأيت الرجال من رجال ، ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع ، إذا ثبت هذا فنقول : إن المفهوم من الجمع المعرف ، إما الكل أو ما دونه ، والثاني : باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف ، وقد علمت أن المنتزع منه أكثر ، فوجب أن يكون الجمع المعرف مفيدا للكل والله أعلم . أما على طريقة أبي هاشم ، وهي أن الجمع المعرف لا يفيد العموم فيمكن التمسك بالآية من وجهين آخرين :
الأول : أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فقوله : ( وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 14 ] يقتضي أن الفجور هي العلة ، وإذا ثبت ذلك لزم عموم الحكم لعموم علته وهو المطلوب ، وفي هذا الباب طريقة ثالثة يذكرها النحويون وهي أن اللام في قوله : ( وإن الفجار ) ليست لام تعريف ، بل هي بمعنى الذي ، ويدل عليه وجهان :
أحدهما : أنها تجاب بالفاء كقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) [ المائدة : 38 ] ، وكما تقول : الذي يلقاني فله درهم .
الثاني : أنه يصح عطف الفعل على الشيء الذي دخلت هذه اللام عليه قال تعالى : ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا ) [ الحديد : 18 ] فلولا أن قوله : ( إن المصدقين ) بمعنى : إن الذين اصدقوا لما صح أن يعطف عليه قوله : ( وأقرضوا الله ) وإذا ثبت ذلك كان قوله : ( وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 14 ] معناه : إن الذين فجروا فهم في الجحيم ، وذلك يفيد العموم .
الآية الثانية في هذا الباب : قوله تعالى : ( يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) [ مريم : 85 ] ولفظ المجرمين صيغة جمع معرفة بالألف واللام .
وثالثها : قوله تعالى : ( ونذر الظالمين فيها جثيا ) [ مريم : 72 ] .
ورابعها : قوله تعالى : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم ) [ فاطر : 45 ] بين أنه يؤخر عقابهم إلى يوم آخر وذلك إنما يصدق أن لو حصل عقابهم في ذلك اليوم .