أما المثل الأول فهو قوله سبحانه وتعالى : ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )
اعلم أن الكلام في هذه الآية مرتب على فصول :
الفصل الأول في
اعلم أن لفظ النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما ، وهذه الكيفية يستحيل أن تكون إلها لوجوه : إطلاق اسم النور على الله تعالى
أحدها : أن هذه ، وإن كانت عرضا فمتى ثبت [حدوثه ثبت] حدوث جميع الأعراض القائمة به ، ولكن هذه المقدمة إنما تثبت بعد إقامة الدلالة على أن الحلول على الله تعالى محال . الكيفية إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدال على حدوث الجسم دالا على حدوثها
وثانيها : أنا سواء قلنا النور جسم أو أمر حال في الجسم فهو منقسم ، لأنه إن كان جسما فلا شك في أنه منقسم ، وإن كان حالا فيه ، فالحال في المنقسم منقسم ، وعلى التقديرين فالنور منقسم وكل منقسم فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره ، وكل مفتقر فهو في تحققه مفتقر إلى غيره ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره ، فالنور محدث فلا يكون إلها .
وثالثها : أن هذا النور المحسوس لو كان هو الله لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على الله تعالى .
ورابعها : أن هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس والكواكب . وذلك على الله محال .
وخامسها : أن هذه الأنوار لو كانت أزلية لكانت إما أن تكون متحركة أو ساكنة ، لا جائز أن تكون متحركة لأن الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان ، فالحركة مسبوقة بالحصول في المكان الأول . والأزلي يمتنع أن يكون مسبوقا بالغير ، فالحركة الأزلية محال . ولا جائز أن تكون ساكنة لأن السكون لو كان أزليا لكان ممتنع الزوال ، لكن السكون جائز الزوال ، لأنا نرى الأنوار تنتقل من مكان إلى مكان فدل ذلك على حدوث الأنوار .
وسادسها : أن النور إما أن يكون جسما أو كيفية قائمة بالجسم ، والأول محال لأنا قد نعقل الجسم جسما مع الذهول عن كونه نيرا ولأن الجسم قد يستنير بعد أن كان مظلما فثبت الثاني لكن الكيفية القائمة بالجسم محتاجة إلى الجسم ، والمحتاج إلى الغير لا يكون إلها ، وبمجموع هذه الدلائل يبطل قول المانوية الذين يعتقدون أن الإله سبحانه هو النور الأعظم . وأما المجسمة [ ص: 195 ] المعترفون بصحة القرآن فيحتج على فساد قولهم بوجهين :
الأول : قوله : ( ليس كمثله شيء ) [الشورى : 11] ولو كان نورا لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة .
الثاني : أن قوله تعالى : ( مثل نوره ) صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه . وكذا قوله : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) فإن قيل قوله : ( الله نور السماوات ) يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور . وقوله : ( مثل نوره ) يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نورا وبينهما تناقض ، قلنا : نظير هذه الآية قولك : زيد كرم وجود ، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده ، وعلى هذا الطريق لا تناقض .
الثالث : قوله سبحانه وتعالى : ( وجعل الظلمات والنور ) [الأنعام : 1] وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نورا ، فثبت أنه لا بد من التأويل ، والعلماء ذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن النور سبب للظهور ، والهداية لما شاركت النور في هذا المعنى صح وهو كقوله تعالى : ( إطلاق اسم النور على الهداية الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [البقرة : 257] .
وقوله : ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا ) [الأنعام : 122] وقال : ( ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ) [الشورى : 52] فقوله : ( الله نور السماوات والأرض ) أي ذو نور السماوات والأرض ، والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السماوات ، والحاصل أن المراد : الله هادي أهل السماوات والأرض وهو قول والأكثرين رضي الله عنهم . ابن عباس
وثانيها : المراد أنه مدبر السماوات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة ، فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد ، فإنه إذا كان مدبرهم تدبيرا حسنا فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق ، قال جرير :
وأنت لنا نور وغيث وعصمة
وهذا اختيار الأصم والزجاج .
وثالثها : المراد ناظم السماوات والأرض على الترتيب الأحسن ، فإنه قد يعبر بالنور على النظام ، يقال ما أرى لهذا الأمر نورا .
ورابعها : معناه منور السماوات والأرض ، ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء .
والثاني : منورها بالشمس والقمر والكواكب .
والثالث : أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب ، وزين الأرض بالأنبياء والعلماء ، وهو مروي عن أبي بن كعب والحسن ، والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية : ( وأبي العالية يهدي الله لنوره من يشاء ) يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل . واعلم أن الشيخ رحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار ، وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو ، وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف ، فقال : الغزالي ، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط ، ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف ؛ لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية ، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركنا لا بد منه للظهور ، ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك ، وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك ، [ ص: 196 ] فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف ، وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره . وفي الأعمى إنه فقد نور البصر . إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصرا وبصيرة ، فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان ، والبصيرة هي القوة العاقلة ، وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك ، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوبا لم يحصل شيء منها في نور العقل ، اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة رحمه الله ذكر منها سبعة ، ونحن جعلناها عشرين : والغزالي
الأول : أن ، أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة ، وأما آلتها فهي العين ، والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين ، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ ، فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر . القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها
الثاني : أن ، ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات ، أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل ، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية ، وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير ، وإدراك الجزئيات واجب التغير ، ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته ، لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس ، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف . القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها
الثالث : ، فوجب أن يكون العقل أشرف ، أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس آخر له ، بل لو استعمل له الحس مرة أخرى لأحس به مرة أخرى ولكن ذلك لا يكون إنتاج الإحساس لإحساس آخر ، وأما أن الإدراك العقلي منتج فلأنا إذا عقلنا أمورا ثم ركبناها في عقولنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخرى ، وهكذا كل تعقل حاصل فإنه يمكن التوسل به إلى تحصيل تعقل آخر إلى ما لا نهاية له ، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف . الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج
الرابع : ، فوجب أن يكون الإدراك العقلي أشرف . أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها ، فأدرك لونا كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان [و] السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز ، وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل ، وبالعكس ؛ وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف . الإدراك الحسي لا يتسع للأمور الكثيرة ، والإدراك العقلي يتسع لها
الخامس : ، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف ، والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول . القوة الحسية إذا أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة
[ ص: 197 ] السادس : ، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجبة لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن ، القوى الحسية تضعف بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن ، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها . والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين
السابع : ، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة ، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزها عن القرب والبعد والجهة ، فكانت القوة العقلية أشرف . القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد ، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد
الثامن : فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه ، وإلا اللون القائم بذلك السطح ، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون ، فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن ، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها ، فكانت القوة العاقلة نورا بالنسبة إلى الباطن والظاهر ، أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة ، فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة . القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها
التاسع : أن ، ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال ، فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال . مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعالها
العاشر : التي هي معروضات الموجودات والمعدومات ، ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم ، فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه . وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام ، والأجسام أخس من الجواهر الروحانية ، فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات . وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات ، فكانت القوة العاقلة أشرف . القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات