( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى )
قوله تعالى : ( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى )
. اعلم أنه تعالى لما بين أن من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة أتبعه بما يعتبر [ به ] المكلف من فقال : ( الأحوال الواقعة في الدنيا بمن كذب الرسل أفلم يهد لهم ) والقراءة العامة أفلم يهد بالياء المعجمة من تحت وفاعله هو قوله : ( كم أهلكنا ) قال القفال : جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم ، كما جعل مثل ذلك واعظا لهم وزاجرا ، وقرأ : أفلم نهد لهم بالنون ، قال أبو عبد الرحمن السلمي الزجاج : يعني أفلم نبين لهم بيانا يهتدون به لو تدبروا وتفكروا ، وأما قوله : ( كم أهلكنا ) فالمراد به المبالغة في كثرة من أهلكه الله تعالى من القرون الماضية وأراد بقوله : ( يمشون في مساكنهم ) أن قريشا يشاهدون تلك الآيات العظيمة الدالة على ما كانوا عليه من النعم ، وما حل بهم من ضروب الهلاك ، وللمشاهدة في ذلك من الاعتبار ما ليس لغيره ، وبين أن في تلك الآيات آيات لأولي النهى ، أي لأهل العقول والأقرب أن للنهية مزية على العقل ، والنهى لا يقال إلا فيمن له عقل ينتهي به عن القبائح ، كما أن لقولنا أولو العزم مزية على أولي الحزم ، فلذلك قال بعضهم : أهل الورع وأهل التقوى ، ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على من كذب وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : ( ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى ) وفيه تقديم وتأخير ، والتقدير : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، ولا شبهة في أن الكلمة هي إخبار الله تعالى ملائكته ، وكتبه في اللوح المحفوظ : أن أمته عليه السلام وإن كذبوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما يفعل بغيرهم من الاستئصال ، واختلفوا فيما لأجله لم يفعل ذلك بأمة محمد ؟ صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم : لأنه علم أن فيهم من يؤمن ، [ ص: 115 ] وقال آخرون : علم أن في نسلهم من يؤمن ولو أنزل بهم العذاب لعمهم الهلاك ، وقال آخرون : المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا هو ، وقال أهل السنة : له بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله ومن شاء بعذابه من غير علة ، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل ، فلهذا قال أهل التحقيق : كل شيء صنيعه لا لعلة ، وأما الأجل المسمى ففيه قولان : أحدهما : ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب وهو يوم بدر . والثاني : ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب ، وهذا أقرب ، ويكون المراد ولولا كلمة سبقت تتضمن تأخير العذاب إلى الآخرة كقوله : ( بل الساعة موعدهم ) [القمر : 46] لكان العقاب لازما لهم فيما يقدمون عليه من تكذيب الرسول وأذيتهم له ، ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ، ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم ، فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم : إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة ، ويحتمل أيضا تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه ، فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفا له عن ذلك ، ثم قال الكلبي ومقاتل : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، ثم قال : ( وسبح بحمد ربك ) وهو نظير قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) [البقرة : 45] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ( بحمد ربك ) في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه .
المسألة الثانية : إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ، إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى . ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة
المسألة الثالثة : اختلفوا في التسبيح على وجهين ، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة ، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه . أحدها : أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص ، فقال رضي الله عنهما : دخلت الصلوات الخمس فيه ، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعا قبل الغروب ، ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ، ويكون قوله : ( ابن عباس وأطراف النهار ) كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب ، كما اختصت في قوله : ( والصلاة الوسطى ) [البقرة : 238] بالتوكيد . القول الثاني : أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة ، أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين ، فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما ، بقي قوله : ( ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ) وأطراف النهار للنوافل . القول الثالث : أنها تدل على أقل من الخمس ، فقوله : قبل طلوع الشمس للفجر ، وقبل غروبها للعصر ، ومن آناء الليل للمغرب والعتمة ، فيبقى الظهر خارجا ، والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى . هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة ، قال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات ، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره ، وذلك لأنه تعالى صبره أولا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر ، [ ص: 116 ] والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائما مظهرا لذلك وداعيا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات .
المسألة الرابعة : ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر ؛ وذلك لسكون الناس وهدء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : ( أفضل الذكر إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ) [ المزمل : 6] وقال : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ) [الزمر : 9] ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل .
المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : النهار له طرفان فكيف قال : ( وأطراف النهار ) بل الأولى أن يقول كما قال : ( وأقم الصلاة طرفي النهار ) [هود : 114] ؟
وجوابه : من الناس من قال : أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ، ومنهم من قال : إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود ، أما قوله تعالى : ( لعلك ترضى ) ففيه وجوه . أحدها : أن هذا كما يقول الملك الكبير : يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ، ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة ، وهو إشارة إلى قوله : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) [الضحى : 5] وقوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) [الإسراء : 76] وثانيها : لعلك ترضى ما تنال من الثواب . وثالثها : لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة . وقرأ الكسائي وعاصم : لعلك ترضى بضم التاء ، والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه .