المقام الثاني : في بيان أن تحصيل هذا العلم من الواجبات ، ويدل عليه المعقول والمنقول :
أما المعقول : فهو أنه ليس تقليد البعض أولى من تقليد الباقي ، فإما أن يجوز تقليد الكل فيلزمنا تقليد الكفار ، وإما أن يوجب تقليد البعض دون البعض فيلزم أن يصير الرجل مكلفا بتقليد البعض دون البعض من غير أن يكون له سبيل إلى أنه لم قلد أحدهما دون الآخر ، وإما أن لا يجوز التقليد أصلا ، وهو المطلوب ، فإذا بطل التقليد لم يبق إلا هذه الطريقة النظرية .
وأما المنقول فيدل عليه الآيات والأخبار ، أما الآيات :
فأحدها : قوله : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] ، ولا شك أن المراد بقوله : بالحكمة ؛ أي بالبرهان والحجة ، فكانت الدعوة بالحجة والبرهان إلى الله تعالى مأمورا بها . وقوله : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) ليس المراد منه المجادلة في فروع الشرع ؛ لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع ، ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه ، فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة ، فكان الجدال فيه مأمورا به ثم - لقوله : ( إنا مأمورون باتباعه - عليه السلام فاتبعوني يحببكم الله ) [ آل عمران : 31 ] ، ولقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [ الأحزاب : 21 ] ، فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال .
وثانيها : قوله تعالى : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) [ الحج : 3 ، 8 ، لقمان : 20 ] ، ، وذلك يقتضي أن ذم من يجادل في الله بغير علم لا يكون مذموما بل يكون ممدوحا ، وأيضا حكى الله تعالى ذلك عن المجادل بالعلم نوح في قوله : ( قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [ هود : 32 ] .
وثالثها : أن الله تعالى أمر بالنظر فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء : 82 ] ، ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) [ الغاشية : 17 ] ، ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) [ فصلت : 53 ] ، ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) [ الرعد : 41 ] ، ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) [ يونس : 10 ] ، ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) . [ الأعراف : 185 ]
ورابعها : أن الله تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال : ( إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) [ الزمر : 21 ] ، ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) [ آل عمران : 13 ] ، ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) [ ص: 84 ] [ طه : 54 ، 128 ] ، وأيضا ذم المعرضين فقال : ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ) [ يوسف : 105 ] ، ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) [ الأعراف : 179 ] .
وخامسها : أنه تعالى ذم التقليد ، فقال حكاية عن الكفار : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير ) [ الزخرف : 23 ] ، وقال : ( بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ) [ لقمان : 21 ] ، وقال : ( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) [ الشعراء : 74 ] ، وقال : ( إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ) [ الفرقان : 42 ] ، وقال عن والد إبراهيم - عليه السلام - : ( لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا ) وكل ذلك يدل على ، فمن دعا إلى النظر والاستدلال كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ، ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار . وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد
وأما الأخبار ففيها كثرة ، ولنذكر منها وجوها :
أحدها : ما روى عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : " أبي هريرة بني فزارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي وضعت غلاما أسود ، فقال له : هل لك من إبل ؟ فقال : نعم ، قال : فما ألوانها ؟ قال : حمر ، قال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فأنى ذلك ؟ قال : عسى أن يكون قد نزعه عرق ، قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " . واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس . جاء رجل من
وثانيها : عن قال : أبي هريرة آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني . أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول خلقه بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا وأنا الله الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد " فانظر كيف احتج الله تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء على القدرة على الإعادة ، وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية . قال - عليه الصلاة والسلام - : " قال الله تعالى : كذبني ابن
وثالثها : روى أنه - عليه السلام - قال : " عبادة بن الصامت أحب الله لقاءه ، ومن أحب لقاء الله كره الله لقاءه " فقالت كره لقاء الله : يا رسول الله إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء الله ؟ فقال - عليه السلام - : " لا ؛ ولكن المؤمن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه ، والكافر كره لقاء الله فكره الله لقاءه عائشة " وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به . من