المسألة السادسة : اعلم أن قوله : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) يقتضي أن فلو خرج البعض عن هذا الخطاب لكان ذلك تخصيصا للعموم . وههنا أبحاث : الله تعالى أمر كل الناس [ ص: 77 ] بالعبادة
البحث الأول : أن لفظ الجمع المعرف بلام التعريف يفيد العموم ، والخلاف فيه مع الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي هاشم ، لنا أنه يصح تأكيده بما يفيد العموم كقوله : ( فسجد الملائكة كلهم أجمعون ) [الحجر : 30] ولو لم يكن اللفظ في أصله للعموم لما كان قوله : ( كلهم ) تأكيدا ، بل بيانا ؛ ولأنه يصح استثناء كل واحد من الناس عنه والاستثناء يخرج ما لولاه لدخل فوجب أن يفيد العموم ، وتمام تقريره في أصول الفقه .
البحث الثاني : لما ثبت أن قوله تعالى : ( ياأيها الناس ) يتناول جميع الناس الذين كانوا موجودين في ذلك العصر فهل يتناول الذين سيوجدون بعد ذلك أم لا ؟ والأقرب أنه لا يتناولهم ؛ لأن قوله : ( ياأيها الناس ) خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز ، وأيضا فالذين سيوجدون بعد ذلك ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجودا لا يكون إنسانا ، وما لا يكون إنسانا لا يدخل تحت قوله : ( ياأيها الناس ) فإن قيل : فوجب أن لا يتناول شيء من هذه الخطابات الذين وجدوا بعد ذلك الزمان وأنه باطل قطعا ، قلنا : لو لم يوجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك إلا أنا عرفنا بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حق من سيوجد بعد ذلك إلى قيام الساعة فلهذه الدلالة المنفصلة حكمنا بالعموم .
البحث الثالث : قوله : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم ) أمر للكل بالعبادة فهل يفيد أمر الكل بكل عبادة ؟ الحق لا ؛ لأن قوله اعبدوا معناه ادخلوا هذه الماهية في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد الماهية في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود ؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية ؛ لأن هذه العبادة عبارة عن العبادة مع قيد كونها هذه ، ومتى وجد المركب فقد وجد قيداه ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة آت بالعبادة ، والآتي بالعبادة آت بتمام ما اقتضاه قوله : ( اعبدوا ) وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة ، فإن أردنا أن نجعله دالا على العموم نقول : الأمر بالعبادة لا بد وأن يكون لأجل كونها عبادة ؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا للحكم ، وههنا كون العبادة عبادة يناسب الأمر بها ، لما أن العبادة عبارة عن تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع له ، وكل ذلك مناسب في العقول ، وإذا ثبت أن كونه عبادة علة للأمر بها وجب في كل عبادة أن يكون مأمورا بها ؛ لأنه أينما حصلت العلة وجب حصول الحكم لا محالة .
البحث الرابع : لقائل أن يقول : قوله : ( ياأيها الناس اعبدوا ) لا يتناول الكفار ألبتة ؛ لأن ، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكونوا مأمورين بالعبادة ، أما أنه لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان ؛ فلأن الأمر بمعرفة الله تعالى إما أن يتناوله حال كونه غير عارف بالله تعالى أو حال كونه عارفا بالله تعالى ، أما إن تناوله حال كونه غير عارف بالله فيستحيل أن يكون عارفا بأمر الله تعالى ؛ لأن العلم بالصفة مع الجهل بالذات محال فلو تناوله الأمر في هذه الحالة لكان قد تناوله الأمر في حال يستحيل منه أن يعرف كونه مأمورا بذلك الأمر ، وذلك تكليف ما لا يطاق ، وإن تناوله الأمر بالمعرفة حال كونه عارفا بالله فذلك محال ؛ لأنه أمر بتحصيل الحاصل ، وذلك غير ممكن ، فثبت أن الكافر يستحيل أن يكون مأمورا بتحصيل المعرفة ، وإذا استحال ذلك استحال أن يكون مأمورا بالعبادة ؛ لأنه إما أن يؤمر بالعبادة قبل [ ص: 78 ] المعرفة وهو محال ؛ لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة أو يؤمر بالعبادة بعد المعرفة إلا أن على هذا التقدير يكون الأمر بالعبادة موقوفا على الأمر بالمعرفة ، فلما كان الأمر بالمعرفة ممتنعا كان الأمر بالعبادة أيضا ممتنعا ، وأيضا يستحيل أن يكون هذا الخطاب مع المؤمنين ؛ لأنهم يعبدون الله فأمرهم بالعبادة يكون أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال . والجواب : من الناس من قال : الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة ، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول ملك النصاب ، وهؤلاء هم القائلون بأن المعارف ضرورية ، وأما من لم يقل بذلك استدل بهذه الآية على أن المعارف ليست ضرورية فقال : الأمر بالعبادة حاصل ، والعبادة لا تمكن إلا بالمعرفة ، والأمر بالشيء أمر بما هو من ضرورياته ، كما أن الطهارة إذا لم تصح إلا بإحضار الماء كان إحضار الماء واجبا ، والدهري لا يصح منه تصديق الرسول إلا بتقديم معرفة الله تعالى ، فوجبت ، والمحدث لا تصح منه الصلاة إلا بتقديم الطهارة فوجبت ، والمودع لا يمكنه رد الوديعة إلا بالسعي إليها ، فكان السعي واجبا ، فكذا ههنا يصح أن يكون الكافر مخاطبا بالعبادة ، وشرط الإتيان بها الإتيان بالإيمان أولا ثم الإتيان بالعبادة بعد ذلك ، بقي لهم : الأمر بتحصيل المعرفة محال ، قلنا : هذه المسألة مستقصاة في الأصول والذي نقول ههنا : إن هذا الكلام وإن تم في كل ما يتوقف العلم يكون الله آمرا على العلم به ، فإنه لا يجري فيما عدا ذلك من الصفات ، فلم لا يجوز ورود الأمر بذلك؟ سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يقال هذا الأمر بتناول المؤمنين ؟ . الكفار لا يمكن أن يكونوا مأمورين بالإيمان
قوله لأنه يصير ذلك أمرا بتحصيل الحاصل وهو محال ، قلنا : لما تعذر ذلك فنحمله إما على الأمر بالاستمرار على العبادة أو على الأمر بالازدياد منها ، ومعلوم أن الزيادة على العبادة عبادة ، فصح تفسير قوله : اعبدوا بالزيادة في العبادة .
البحث الخامس : لوجوه : قال منكرو التكليف : لا يجوز ورود الأمر من الله تعالى بالتكليف
أحدها : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء دواعيه إلى الفعل أو الترك أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، فإن كان الأول فهو محال ؛ لأن في حال الاستواء يمتنع حصول الترجيح ؛ لأن الاستواء يناقض الترجيح ، فالجمع بينهما محال ، والتكليف بالفعل حال استواء الداعيين تكليف بما لا يطاق ، وإن كان الثاني فالراجح واجب الوقوع ؛ لأن المرجوح حال ما كان مساويا للراجح كان ممتنع الوقوع ، وإلا فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وإذا كان حال الاستواء ممتنع الوقوع فبأن يصير حال المرجوحية ممتنع الوقوع أولى ، وإذا كان المرجوح ممتنع الوقوع كان الراجح واجب الوقوع ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين ، إذا ثبت هذا فالتكليف إن وقع بالراجح كان التكليف تكليفا بإيجاد ما يجب وقوعه ، وإن وقع بالمرجوح كان التكليف تكليفا بما يمتنع وقوعه ، وكلاهما تكليف ما لا يطاق .
وثانيها : أن الذي ورد به التكليف إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه ، أو علم أنه لا يقع أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأول كان واجب الوقوع ممتنع العدم ، فلا فائدة في ورود الأمر به ، وإن علم لا وقوعه كان ممتنع الوقوع واجب العدم ، فكان الأمر بإيقاعه أمرا بإيقاع الممتنع ، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولا بالجهل على الله تعالى وهو محال ؛ ولأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه لا يتميز المطيع عن العاصي ، وحينئذ لا يكون في الطاعة فائدة .
وثالثها : أن ورود الأمر بالتكاليف إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فهي إما عائدة إلى المعبود أو إلى العابد أما إلى المعبود فمحال ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يكون كاملا بغيره ؛ ولأنا نعلم [ ص: 79 ] بالضرورة أن ، وأما إلى العابد فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللذة ودفع الألم ، وهو سبحانه وتعالى قادر على تحصيل كل ذلك للعبد ابتداء من غير توسط هذه المشاق ، فيكون توسطها عبثا ، والعبث غير جائز على الحكيم . الإله العالي على الدهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده
ورابعها : أن العبد غير موجد لأفعاله ؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها ، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجدا له ، وإذا لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه فإن أمره بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره به حال ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال وكل ذلك باطل .
وخامسها : أن المقصود من التكليف إنما هو تطهير القلب على ما دلت عليه ظواهر القرآن ، فلو قدرنا إنسانا مشتغل القلب دائما بالله تعالى ، وبحيث لو اشتغل بهذه الأفعال الظاهرة لصار ذلك عائقا له عن الاستغراق في معرفة الله تعالى وجب أن يسقط عنه هذه التكاليف الظاهرة ، فإن الفقهاء والقياسيين قالوا : إذا لاح المقصود والحكمة في التكاليف وجب اتباع الأحكام المعقولة لا اتباع الظواهر .
والجواب عن الشبه الثلاثة الأولى من وجهين : الأول : أن أصحاب هذه الشبه أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التكاليف ، فهذا تكليف ينفي التكليف وأنه متناقض .
الثاني : أن عندنا يحسن من الله تعالى كل شيء سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره ؛ لأنه تعالى خالق مالك ، والمالك لا اعتراض عليه في فعله .
البحث السادس : قالوا : الأمر بالعبادة ، وإن كان عاما لكل الناس لكنه مخصوص في حق من لا يفهم كالصبي والمجنون والغافل والناسي ، وفي حق من لا يقدر لقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة : 286] .
ومنهم من قال : إنه مخصوص في حق العبيد ؛ لأن الله تعالى أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة الموالي يمنعهم عن الاشتغال بالعبادة ، والأمر الدال على وجوب طاعة المولى أخص من الأمر الدال على وجوب العبادة ، والخاص يقدم على العام ، والكلام في هذا المعنى مذكور في أصول الفقه .