ثم قال تعالى : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ) .
[ ص: 135 ] اعلم أن المراد من قوله : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ) أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به ، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، والثواب والعقاب ، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا ، ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع .
فالنوع الأول : قوله : ( لكان خيرا لهم ) فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة ، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح ، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره ، لأن قولنا : " خير " يستعمل على الوجهين جميعا .
النوع الثاني : قوله : ( وأشد تثبيتا ) وفيه وجوه :
الأول : أن المراد أن هذا أقرب إلى ثباتهم عليه واستمرارهم ، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها ، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه .
الثاني : أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق ، والباطل زائل .
الثالث : أن الإنسان يطلب أولا تحصيل الخير ، فإذا حصله فإنه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا ، فقوله : ( لكان خيرا لهم ) إشارة إلى الحالة الأولى ، وقوله : ( وأشد تثبيتا ) إشارة إلى الحالة الثانية .
النوع الثالث : قوله تعالى : ( وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ) .
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا ، بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم . قال صاحب " الكشاف " : و " إذا " جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت ؟ فقيل : هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما ، كقوله : ( الإخلاص في الإيمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) [ النساء : 40 ] .
وأقول : إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة ، كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر .
أحدها : أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله : ( آتيناه ) وقوله : ( من لدنا ) والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية .
وثانيها : قوله : ( من لدنا ) وهذا التخصيص يدل على المبالغة ، كما في قوله : ( وعلمناه من لدنا علما ) [ الكهف : 65 ] .
وثالثها : أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم ، ، وكيف لا يكون عظيما ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة " . فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
النوع الرابع : قوله : ( ولهديناهم صراطا مستقيما ) وفيه قولان :
أحدهما : أن الصراط المستقيم هو الدين الحق ، ونظيره قوله تعالى : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله ) [ الشورى : 52 - 53 ] .
والثاني : أنه الذي هو الطريق من عرصة القيامة ، وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر ، والدين الحق مقدم على الثواب والأجر ، والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر ، فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى . الصراط