أما قوله تعالى : ( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول ظاهر قوله : ( حتى إذا فشلتم ) بمنزلة الشرط ، ولا بد له من الجواب فأين جوابه ؟
واعلم أن للعلماء هاهنا طريقين :
الأول : أن هذا ليس بشرط ، بل المعنى ، ولقد صدقكم الله وعده [ ص: 30 ] حتى إذا فشلتم ، أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع ؛ لأنه تعالى كان إنما ، فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر ، وعلى هذا القول تكون كلمة "حتى" غاية بمعنى "إلى" فيكون معنى قوله : ( حتى إذا ) إلى أن ، أو إلى حين . وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة
الطريق الثاني : أن يساعد على أن قوله : ( حتى إذا فشلتم ) شرط ، وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه :
الأول : وهو قول البصريين أن جوابه محذوف ، والتقدير : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره ، وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله : ( ولقد صدقكم الله وعده ) عليه ، ونظائره في القرآن كثيرة ، قال تعالى : ( فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) [الأنعام : 35] والتقدير : فافعل ، ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه ، وقال : ( أم من هو قانت آناء الليل ) [الزمر : 9] والتقدير : أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك ؟
الوجه الثاني : وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء : أن جوابه هو قوله : ( وعصيتم ) والواو زائدة كما قال : ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه ) [الصافات : 103] والمعنى ناديناه ، كذا هاهنا ، الفشل والتنازع صار موجبا للعصيان ، فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم ، فالواو زائدة ، وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب "حتى إذا" بدليل قوله تعالى : ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ) [الزمر : 71] والتقدير حتى إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها .
فإن قيل : إن "فشلتم وتنازعتم" معصية ، فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد .
قلنا : المراد من العصيان هاهنا خروجهم عن ذلك المكان ، ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان ، فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه .
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة .
الوجه الثالث في الجواب : أن يقال تقدير الآية : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، صرتم فريقين ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة .
فالجواب : هو قوله : صرتم فريقين ، إلا أنه أسقط لأن قوله : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) يفيد فائدته ويؤدي معناه ؛ لأن كلمة "من" للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام ، وهذا احتمال خطر ببالي .
الوجه الرابع : قال أبو مسلم : جواب قوله : ( حتى إذا فشلتم ) هو قوله : ( صرفكم عنهم ) والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة "ثم" هاهنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية البعد . والله أعلم .
المسألة الثانية : أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة :
أولها : الفشل وهو الضعف ، وقيل الفشل هو الجبن ، وهذا باطل بدليل قوله تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) [الأنفال : 46] أي فتضعفوا ؛ لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجبنوا .
ثانيها : التنازع في الأمر وفيه بحثان :
البحث الأول : المراد من التنازع ؛ فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم إن الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن ، فقالوا : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله بن جبير عبد الله : عهد الرسول إلينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة قليلة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع . أنه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة ، [ ص: 31 ] وجعل أميرهم
البحث الثاني : قوله : ( في الأمر ) فيه وجهان :
الأول : أن الأمر هاهنا بمعنى الشأن والقصة ، أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن .
والثاني : أنه الأمر الذي يضاده النهي . والمعنى : وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان .
وثالثها : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان . بقي في هذه الآية سؤالات :
الأول : لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية ؟
والجواب : أن القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ، ثم تنازعوا بطريق القول في أنا : هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة .
السؤال الثاني : لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام ؟
والجواب : هذا اللفظ وإن كان عاما إلا أنه جاء المخصص بعده ، وهو قوله : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) .
السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) .
والجواب عنه : أن المقصود منه ؛ لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . التنبيه على عظم المعصية