المسألة الثانية : اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان ، منها ما يكون أصله معقولا إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة ، وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة ، والصوم أصله معقول ، وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة ، أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة ، فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة .
[ ص: 136 ] إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون إن والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول ، وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه ، أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية ، فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد . أحدها : قوله : ( الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية ولله على الناس حج البيت ) والمعنى أنه سبحانه لكونه إلها ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا . وثانيها : أنه ذكر " الناس " ثم أبدل منه ( من استطاع إليه سبيلا ) وفيه ضربان من التأكيد ، أما أولا فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير ، وذلك يدل على شدة العناية ، وأما ثانيا فلأنه أجمل أولا وفصل ثانيا ، وذلك يدل على شدة الاهتمام . وثالثها : أنه سبحانه عبر عن هذا الوجوب بعبارتين . إحداهما : لام الملك في قوله : ( ولله ) وثانيتهما : كلمة " على " وهي للوجوب في قوله : ( ولله على الناس ) . ورابعها : أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه ، وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام . وخامسها : أنه قال : ( ومن كفر ) مكان ومن لم يحج ، وهذا تغليظ شديد في حق . وسادسها : ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . وسابعها : قوله : ( تارك الحج عن العالمين ) ولم يقل عنه ؛ لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنيا عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته ، فكان ذلك أدل على السخط . وثامنها : أن في أول الآية قال : ( ولله على الناس ) فبين أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلهية وكبرياء الربوبية ، لا لجر نفع ولا لدفع ضر ، ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله : ( فإن الله غني عن العالمين ) ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج ، قوله عليه الصلاة والسلام : " " وروي " حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث " قيل : معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه مكة لعدم الأمن أو غيره ، وعن ابن مسعود : " حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت " .