حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثني ، ثنا يحيى بن معين الحجاج بن محمد ، أنبأنا ، عن عبد الرحمن المسعودي عون بن عبد الله ، أنه كان يقول في بكائه وذكر خطيئته : ويحي ، بأي شيء لم أعص ربي ، ويحي ، إنما عصيته بنعمته عندي ، ويحي من عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني ، واسوأتاه ، لم أستحيهم ولم أراقب ربي ، ويحي ، نسيت ما لم ينسوا مني ، ويحي ! غفلت ولم يغفلوا عني ، لم أستحيهم ولم أراقب ، واسوأتاه ! ويحي ! حفظوا ما ضيعت مني ، ويحي ! طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني ، ويحي ! طاوعتها فيما يضرها ويضرني . ويحها ! ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني ، أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني ، ويحها ! إني لأنصفها وما تنصفني ، أدعوها لأرشدها وتدعوني لتغويني ، ويحها ! إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني ، ويحها ! تريد اليوم أن تردني وغدا تخاصمني . خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها
رب لا تسلطها على ذلك مني ، رب إن نفسي لم ترحمني فارحمني ، رب إني أعذرها ولا عذرتني ، إنه إن يك خيرا أخذلها وتخذلني ، وإن يك شرا أحبها وتحبني ، رب فعافني منها وعافها مني ، حتى لا أظلمها ولا تظلمني ، وأصلحني لها وأصلحها لي ، فلا أهلكها ولا تهلكني ، ولا تكلني إليها ولا تكلها إلي .
ويحي ! ، ويحي ! أنساه ولا ينساني ، ويحي ! إنه يقص أثري فإن فررت لقيني ، وإن أقمت أدركني . ويحي ! هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني ؟ وصبحني ، أو طرقني فبغتني ؟ . كيف أفر من الموت وقد وكل بي
ويحي ! أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي ، ولا يتجافى جنبي ولا تدمع عيني ولا تسهر لي . ويحي ! كيف أنام على مثلها ليلي ، ويحي ! هل ينام على مثلها مثلي ، ويحي ! لقد خشيت أن لا يكون هذا الصدق مني ؟ بل ويلي ! [ ص: 256 ] إن لم يرحمني ربي .
ويحي ! كيف لا توهن قوتي ولا تعطش هامتي ، بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كيف لا أنشط فيما يطفئها عني ؟ بل ويلي إن لم يرحمني ربي .
ويحي ! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي ، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني ، بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! كيف تنكأ قرحتي ما تكسب يدي ، ويح نفسي بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة ، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى ، فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي .
ويحي ! لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال ، فويل لي إن لم يرحمني ربي ، ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني ولم ينظر إلي ولم يكلمني ، فأعوذ بنور وجه ربي من خطيئتي ، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري ، فيسود به وجهي ، وتزرق به مع العمى عيني . بل ويلي إن لم يرحمني ربي . ويحي ؟ بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري . ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي ، فويل لي إن لم يرحمني ربي ، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عما لا يعنيني ؟ ويحك يا نفسي ما لك لا تنسين ما لا ينسى ؟ وقد أتيت ما لا يؤتى ، وكل ذلك عند ربك يحصى ، في كتاب لا يبيد ولا يبلى ، ويحك ! لا تخافين أن تجزي فيمن يجزى يوم تجزى كل نفس بما تسعى ، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى . بأي شيء أستقبل ربي
يا نفس ويحك ! ألا تستفيقين مما أنت فيه ؟ إن سقمت تندمين ، وإن صححت تأثمين ، ما لك ؟ إن افتقرت تحزنين ، وإن استغنيت تفتنين . ما لك ؟ إن نشطت تزهدين ، فلم إن دعيت تكسلين ؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي ، فلم لا تنصبين فيما ترغبين .
؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين وتعملين فيها عمل الراغبين . ويحك ! لم تكرهين الموت ؟ لم لا تذعنين ، وتحبين الحياة ، لم لا تصنعين . يا نفس ويحك لم تخالفين
يا نفس ويحك ! أترجين أن ترضي ولا تراضين ، وتجانبين وتعصين .
[ ص: 257 ] ما لك إن سألت تكثرين ، فلم إن أنفقت تقترين ؟ أتريدين الحياة ؟ ولم تحذرين بتغير الزيادة ؟ ولم تشكرين ، تعظمين في الرهبة حين تسألين ، وتقصرين في الرغبة حين تعملين ، تريدين الآخرة بغير عمل ، وتؤخرين التوبة لطول الأمل .
لا تكوني كمن يقال : هو في القول مدل ، ويستصعب عليه الفعل ، بعض بني آدم إن سقم ندم ، وإن صح أمن ، وإن افتقر حزن ، وإن استغنى فتن ، وإن نشط زهد ، وإن رغب كسل ، يرغب قبل أن ينصب ، ولا ينصب فيما يرغب ، يقول قول الزاهد ، ولا يعمل عمل الراغب ، يكره الموت لما لا يدع ، ويحب الحياة لما لا يصنع ، إن سأل أكثر ، وإن أنفق قتر ، يرجو الحياة ولم يحذر ، ويبغي الزيادة ولم يشكر ، يبلغ في الرغبة حين يسأل ، ويقصر في الرغبة حين يعمل ، يرجو الأجر بغير عمل .
ويح لنا ما أغرنا ، ويح لنا ما أغفلنا ، ويح لنا ما أجهلنا ، ويح لنا لأي شيء خلقنا ؟ للجنة أم للنار ؟ ويح لنا أي خطر خطرنا ؟ ويح لنا من أعمال قد أخطرتنا ، ويح لنا مما يراد بنا ، ويح لنا كأنما يعنى غيرنا ، ويح لنا إن ختم على أفواهنا ، وتكلمت أيدينا ، وشهدت أرجلنا ، ويح لنا حين تفتش سرائرنا ، ويح لنا حين تشهد أجسادنا ، ويح لنا مما قصرنا ، لا براءة لنا ، ولا عذر عندنا ، ويح لنا ما أطول أملنا ، ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا ، ويح لنا ولنا الويل الطويل إن لم يرحمنا ربنا ، فارحمنا يا ربنا .
، وأقربك ، وأقدرك ، وأقهرك ، وأوسعك ، وأقضاك ، وأبينك ، وأنورك ، وألطفك ، وأخبرك ، وأعلمك ، وأشكرك ، وأحلمك ، وأحكمك ، وأعطفك ، وأكرمك . رب ما أحكمك ، وأمجدك ، وأجودك ، وأرأفك ، وأرحمك ، وأعلاك
رب ما أرفع حجتك ، وأكثر مدحتك ، رب ما أبين كتابك ، وأشد عقابك ، رب ما أكرم مآبك ، وأحسن ثوابك ، رب ما أجزل عطاءك [ ص: 258 ] وأجل ثناءك ، رب ما أحسن بلاءك ، وأسبغ نعماءك ، رب ما أعلى مكانك ، وأعظم سلطانك ، رب ما أمتن كيدك ، وأغلب مكرك ، رب ما أعز ملكك ، وأتم أمرك ، رب ما أعظم عرشك ، وأشد بطشك ، رب ما أوسع كرسيك ، وأهدى مهديك ، رب ما أوسع رحمتك ، وأعرض جنتك ، رب ما أعز نصرك ، وأقرب فتحك ، رب ما أعمر بلادك ، وأكثر عبادك ، رب ما أوسع رزقك ، وأزيد شكرك ، رب ما أسرع فرجك ، وأحكم صنعك ، رب ما ألطف خيرك ، وأقوى أمرك ، رب ما أنور عفوك ، وأجل ذكرك ، رب ما أعدل حكمك ، وأصدق قولك ، رب ما أوفى عهدك ، وأنجز وعدك ، رب ما أحضر نفعك ، وأتقن صنعك .
ويحي ، كيف أغفل ولا يغفل عني ؟ أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي ؟ أم كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي ؟ أم كيف تهنئني الحياة ولا أدري ما أجلي ؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني ؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي ؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري ؟ أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري ؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي ؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي ؟ أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي ؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني ؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني ؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل به لي ؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي ؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها النجاة مما أحذر على نفسي ؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي ؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني ؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له هوائي ؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي ؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي ؟ أم ؟ أم كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي ؟ كيف يطول أملي والموت أثري
ويحي ، فهل ضرت غفلتي أحدا سوائي ؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي ؟ أم هل يكون عملي إلا لنفسي ؟ فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي ؟ [ ص: 259 ] ويحي ، كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني ، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي ، ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي ، وشغلت بنفسي عن غيري ، وبدلت السماوات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي ، وسيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي ، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي ، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي ، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي ، وشاب الوليد وهو أقل ذنبا مني .
ويحي ، ما أشد حالي وأعظم خطري ، فاغفر لي واجعل طاعتك همي ، وقو عليها جسدي ، وسخ نفسي عن الدنيا ، واشغلني فيما ينفعني ، وبارك لي في قواها حتى ينقضي مني حالي ، وامتن علي وارحمني حين تعيد بعد اللقاء خلقي ، ومن سوء الحساب فعافني يوم تبعثني فتحاسبني ، ولا تعرض عني يوم تعرضني بما سلف من ظلمي وجرمي ، وآمني يوم الفزع الأكبر يوم لا تهمني إلا نفسي ، وارزقني نفع عملي يوم لا ينفعني عمل غيري .
إلهي ، أنت الذي خلقتني ، وفي الرحم صورتني ، ومن أصلاب المشركين نقلتني قرنا فقرنا حتى أخرجتني في الأمة المرحومة ، إلهي فارحمني ، إلهي فكما مننت علي بالإسلام فامنن علي بطاعتك ، وبترك معاصيك أبدا ما أبقيتني ، ولا تفضحني بسرائري ، ولا تخذلني بكثرة فضائحي .
سبحانك خالقي أنا الذي لم أزل لك عاصيا ، فمن أجل خطيئتي لا تقر عيني ، وهلكت إن لم تعف عني ، سبحانك خالقي بأي وجه ألقاك ؟ وبأي قدم أقف بين يديك ؟ وبأي لسان أناطقك ؟ وبأي عين أنظر إليك ؟ وأنت قد علمت سرائر أمري ، وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني ، ونطقت جوارحي بكل الذي قد كان مني ؟
سبحانك خالقي ، فأنا تائب إليك متبصبص ، فاقبل توبتي ، واستجب دعائي ، وارحم شبابي ، وأقلني عثرتي ، وارحم طول عبرتي ، ولا تفضحني بالذي قد كان مني .
[ ص: 260 ] سبحانك خالقي ، أنت غياث المستغيثين ، وقرة أعين العابدين ، وحبيب قلوب الزاهدين ، فإليك مستغاثي ومنقطعي ، فارحم شبابي ، واقبل توبتي ، واستجب دعوتي ، ولا تخذلني بالمعاصي التي كانت مني .
إلهي ، علمتني كتابك الذي أنزلته على رسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم وقعت على معاصيك وأنت تراني ، فمن أشقى مني إذا عصيتك وأنت تراني ، وفي كتابك المنزل قد نهيتني ، إلهي أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصيي لم تقر عيني للذي كان مني ، فأنا تائب إليك فاقبل ذلك مني ، ولا تجعلني لنار جهنم وقودا بعد توحيدي وإيماني بك ، فاغفر لي ولوالدي ولجميع المسلمين برحمتك ، آمين رب العالمين .