وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقا ، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله ، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة ، ولم يحرمه مطلقا لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله ، وإن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم ، لكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب ، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب .
nindex.php?page=treesubj&link=22103_22106_27608فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع ، وآثار الصحابة توافق ذلك كما قال
عمر رضي الله عنه : " [ مقاطع ] الحقوق عند الشروط " .
[ ص: 276 ] وأما الاعتبار فمن وجوه ، أحدها : أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية . والأصل فيها عدم التحريم ، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل ذلك على التحريم ، كما أن الأعيان : الأصل فيها عدم التحريم . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=119وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) [ الأنعام : 119 ] عام في الأعيان والأفعال ، وإذا لم يكن حراما لم تكن فاسدة ، [ لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم ، وإذا لم تكن فاسدة ] كانت صحيحة .
وأيضا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط ، إلا ما ثبت حله بعينه ، وسنبين إن شاء الله معنى حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وأن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم . فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم ، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوا ، كالأعيان التي لم تحرم .
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة والاستصحاب العقلي وانتفاء الحكم لانتفاء دليله ، فإنه يستدل به على عدم تحريم العقود والشروط فيها ، سواء سمي ذلك حلالا أو عفوا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم ، فإن ما ذكره الله في القرآن من
nindex.php?page=treesubj&link=32211_28269ذم الكفار على التحريم بغير شرع : منه ما سببه تحريم الأعيان ، ومنه ما سببه تحريم الأفعال . كما كانوا يحرمون على المحرم لبس ثيابه والطواف فيها إذا لم يكن أحمسيا ويأمرونه بالتعري ، إلا أن يعيره أحمسي ثوبه ، ويحرمون عليه الدخول تحت سقف ، كما كان الأنصار يحرمون إتيان الرجل امرأته في فرجها إذا كانت [ مجبية ] ، ويحرمون
[ ص: 277 ] الطواف
بالصفا والمروة ، وكانوا مع ذلك قد ينقضون العهود التي عقدوها بلا شرع . فأمرهم الله سبحانه في سورة النحل وغيرها بالوفاء بها إلا ما اشتمل على محرم .
فعلم أن
nindex.php?page=treesubj&link=30945العهود يجب الوفاء بها إذا لم تكن محرمة ، وإن لم يثبت حلها بشرع خاص ، كالعهود التي عقدوها في الجاهلية وأمر بالوفاء بها ، وقد نبهنا على هذه القاعدة فيما تقدم ، وذكرنا أنه لا يشرع إلا ما شرعه الله ولا يحرم إلا ما حرمه الله ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=32211الله ذم المشركين الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما لم يحرمه الله . فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي ، كنا محرمين ما لم يحرمه الله . بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله . فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به . فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله ، ولا يحرم عادة إلا بتحريم الله ، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر ، وإن كان فيها قربة من وجه آخر ، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة .
فإن قيل : العقود تغير ما كان مشروعا ؛ لأن ملك البضع أو المال إذا كان ثابتا على حال ، فعقد عقدا أزاله عن تلك الحال فقد غير ما كان مشروعا ، بخلاف الأعيان التي لم تحرم فإنه لا تغير في إباحتها .
فيقال : لا فرق بينهما ، وذلك أن الأعيان إما أن تكون ملكا لشخص أو لا تكون . فإن كانت ملكا فانتقالها بالبيع أو غيره لا
[ ص: 278 ] يغيرها وهو من باب العقود ، وإن لم تكن ملكا فملكها بالاستيلاء ونحوه : هو فعل من الأفعال مغير لحكمها بمنزلة العقود .
وأيضا فإنها قبل الزكاة محرمة . فالزكاة الواردة عليها بمنزلة العقد الوارد على المال . فكما أن أفعالنا في الأعيان من الأخذ والزكاة : الأصل فيه الحل ، وإن غير حكم العين . فكذلك أفعالنا في الأملاك في العقود ونحوها : الأصل فيها الحل ، وإن غيرت حكم الملك .
وسبب ذلك : أن الأحكام الثابتة بأفعالنا كالملك الثابت بالبيع وملك البضع الثابت بالنكاح ، نحن أحدثنا أسباب تلك الأحكام ، والشارع أثبت الحكم لثبوت سببه منا ، لم يثبته ابتداء . كما أثبت إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات المبتدأة . فإذا كنا نحن المثبتين لذلك الحكم ، ولم يحرم الشارع علينا رفعه : لم يحرم علينا رفعه . فمن اشترى عينا فالشارع أحلها له وحرمها على غيره ؛ لإثباته سبب ذلك ، وهو الملك الثابت بالبيع . وما لم يحرم الشارع عليه رفع ذلك ، فله أن يرفع ما أثبته على أي وجه أحب ، ما لم يحرمه الشارع عليه . كمن أعطى رجلا مالا : فالأصل أن لا يحرم عليه التصرف فيه ، وإن كان مزيلا للملك الذي أثبته المعطى ما لم يمنع [ منه ] مانع . وهذا نكتة المسألة التي يتبين بها مأخذها ، وهو أن الأحكام الجزئية - من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو - لم يشرعها الشارع شرعا جزئيا ، وإنما شرعها شرعا كليا ، مثل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وأحل الله البيع وحرم الربا ) [ البقرة : 276 ] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وأحل لكم ما وراء ذلكم )
[ ص: 279 ] [ النساء : 24 ] ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] . وهذا الحكم الكلي ثابت ، سواء وجد هذا البيع المعين أو لم يوجد . فإذا وجد بيع معين أثبت ملكها معينا ، فهذا المعين سببه فعل العبد ، فإذا رفعه العبد فإنما رفع ما أثبته هو بفعله ، لا ما أثبته الله من الحكم [ الكلي ، إذ ما أثبته الله من الحكم ] الجزئي إنما هو تابع لفعل العبد سببه فقط لأن ، الشارع أثبته ابتداء .
وإنما توهم بعض الناس أن رفع الحقوق بالعقود والفسوخ مثل نسخ الأحكام ، وليس كذلك . فإن الحكم المطلق لا يزيله إلا الذي أثبته وهو الشارع . وأما هذا المعين فإنما ثبت ؛ لأن العبد أدخله في المطلق ، فإدخاله في المطلق إليه ، فكذلك إخراجه : إذ الشارع لم يحكم عليه في المعين بحكم أبدا ، مثل أن يقول : هذا الثوب بعه أو لا تبعه ، أو هبه أو لا تهبه ، وإنما [ حكمه ] على المطلق الذي إذا أدخل فيه المعين على حكم المعين .
فتدبر هذا ، وفرق بين تغيير الحكم المعين الخاص الذي أثبته العبد بإدخاله في المطلق ، وبين تغيير الحكم العام الذي أثبته الشارع عند وجود سببه من العبد . وإذا ظهر أن
nindex.php?page=treesubj&link=27608العقود لا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع ، فإنما وجب الوفاء بها لإيجاب الشارع الوفاء بها مطلقا ، إلا ما خصه الدليل ، على أن الوفاء بها من الواجبات التي اتفقت عليها الملل ، بل والعقلاء جميعهم . وقد أدخلها في الواجبات العقلية من قال بالوجوب العقلي ، ففعلها ابتداء لا يحرم إلا بتحريم الشارع ، والوفاء بها وجب لإيجاب الشارع إذا ولإيجاب العقل أيضا .
وَأَمَّا مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَلَمْ يُبِحْهُ مُطْلَقًا ، فَإِذَا حَوَّلَهُ الشَّرْطُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ قَدْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي حَالٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ قَدْ أَبَاحَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الشَّرْطِ يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ ، لَكِنْ فَرْقٌ بَيْنَ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ بِالْخِطَابِ ، وَبَيْنَ ثُبُوتِهِ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ .
nindex.php?page=treesubj&link=22103_22106_27608فَالْعَقْدُ وَالشَّرْطُ يَرْفَعُ مُوجَبَ الِاسْتِصْحَابِ لَكِنْ لَا يَرْفَعُ مَا أَوْجَبَهُ كَلَامُ الشَّارِعِ ، وَآثَارُ الصَّحَابَةِ تُوَافِقُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ
عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " [ مَقَاطِعُ ] الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ " .
[ ص: 276 ] وَأَمَّا الِاعْتِبَارُ فَمِنْ وُجُوهٍ ، أَحَدُهَا : أَنَّ الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ . وَالْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ ، فَيُسْتَصْحَبُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فِيهَا حَتَّى يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ ، كَمَا أَنَّ الْأَعْيَانَ : الْأَصْلُ فِيهَا عَدَمُ التَّحْرِيمِ . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=119وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) [ الْأَنْعَامِ : 119 ] عَامٌّ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً ، [ لِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنَ التَّحْرِيمِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ فَاسِدَةً ] كَانَتْ صَحِيحَةً .
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جِنْسِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ ، إِلَّا مَا ثَبَتَ حِلُّهُ بِعَيْنِهِ ، وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعْنَى حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ، وَأَنَّ انْتِفَاءَ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيمِ . فَثَبَتَ بِالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَدَمُ التَّحْرِيمِ ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا إِمَّا حَلَالًا وَإِمَّا عَفْوًا ، كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ .
وَغَالِبُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مِنَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَالِاسْتِصْحَابِ الْعَقْلِيِّ وَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ ، فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ فِيهَا ، سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ حَلَالًا أَوْ عَفْوًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=32211_28269ذَمِّ الْكُفَّارِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِغَيْرِ شَرْعٍ : مِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَعْيَانِ ، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ تَحْرِيمُ الْأَفْعَالِ . كَمَا كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسَ ثِيَابِهِ وَالطَّوَافَ فِيهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحْمَسِيًّا وَيَأْمُرُونَهُ بِالتَّعَرِّي ، إِلَّا أَنْ يُعِيرَهُ أَحْمَسِيٌّ ثَوْبَهُ ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِ الدُّخُولَ تَحْتَ سَقْفٍ ، كَمَا كَانَ الْأَنْصَارُ يُحَرِّمُونَ إِتْيَانَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا إِذَا كَانَتْ [ مُجَبِّيَةً ] ، وَيُحَرِّمُونَ
[ ص: 277 ] الطَّوَافَ
بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ يَنْقُضُونَ الْعُهُودَ الَّتِي عَقَدُوهَا بِلَا شَرْعٍ . فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَغَيْرِهَا بِالْوَفَاءِ بِهَا إِلَّا مَا اشْتَمَلَ عَلَى مُحَرَّمٍ .
فَعُلِمَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30945الْعُهُودَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ حِلُّهَا بِشَرْعٍ خَاصٍّ ، كَالْعُهُودِ الَّتِي عَقَدُوهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأُمِرَ بِالْوَفَاءِ بِهَا ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَلَا يَحْرُمُ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32211اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ، وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . فَإِذَا حَرَّمْنَا الْعُقُودَ وَالشُّرُوطَ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمُ الْعَادِيَّةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ، كُنَّا مُحَرِّمِينَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . بِخِلَافِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يُشْرَعَ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ . فَلَا يُشَرِّعُ عِبَادَةً إِلَّا بِشَرْعِ اللَّهِ ، وَلَا يُحَرِّمُ عَادَةً إِلَّا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ ، وَالْعُقُودُ فِي الْمُعَامَلَاتِ هِيَ مِنَ الْعَادَاتِ يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فَلَيْسَتْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُفْتَقَرُ فِيهَا إِلَى شَرْعٍ كَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعُقُودُ تُغَيِّرُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ أَوِ الْمَالِ إِذَا كَانَ ثَابِتًا عَلَى حَالٍ ، فَعَقَدَ عَقْدًا أَزَالَهُ عَنْ تِلْكَ الْحَالِ فَقَدْ غَيَّرَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تَحْرُمْ فَإِنَّهُ لَا تَغَيُّرَ فِي إِبَاحَتِهَا .
فَيُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لِشَخْصٍ أَوْ لَا تَكُونَ . فَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا فَانْتِقَالُهَا بِالْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ لَا
[ ص: 278 ] يُغَيِّرُهَا وَهُوَ مِنْ بَابِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا فَمِلْكُهَا بِالِاسْتِيلَاءِ وَنَحْوِهِ : هُوَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُقُودِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا قَبْلَ الزَّكَاةِ مُحَرَّمَةٌ . فَالزَّكَاةُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَالِ . فَكَمَا أَنَّ أَفْعَالَنَا فِي الْأَعْيَانِ مِنَ الْأَخْذِ وَالزَّكَاةِ : الْأَصْلُ فِيهِ الْحِلُّ ، وَإِنْ غَيَّرَ حُكْمَ الْعَيْنِ . فَكَذَلِكَ أَفْعَالُنَا فِي الْأَمْلَاكِ فِي الْعُقُودِ وَنَحْوِهَا : الْأَصْلُ فِيهَا الْحِلُّ ، وَإِنْ غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمِلْكِ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَفْعَالِنَا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ وَمِلْكِ الْبُضْعِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ ، نَحْنُ أَحْدَثْنَا أَسْبَابَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ، وَالشَّارِعُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ لِثُبُوتِ سَبَبِهِ مِنَّا ، لَمْ يُثْبِتْهُ ابْتِدَاءً . كَمَا أَثْبَتَ إِيجَابَ الْوَاجِبَاتِ وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ . فَإِذَا كُنَّا نَحْنُ الْمُثْبِتِينَ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَلَمْ يُحَرِّمِ الشَّارِعُ عَلَيْنَا رَفْعَهُ : لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا رَفْعُهُ . فَمَنِ اشْتَرَى عَيْنًا فَالشَّارِعُ أَحَلَّهَا لَهُ وَحَرَّمَهَا عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالْبَيْعِ . وَمَا لَمْ يُحَرِّمِ الشَّارِعُ عَلَيْهِ رَفْعَ ذَلِكَ ، فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ مَا أَثْبَتَهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَحَبَّ ، مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ . كَمَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا : فَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْمُعْطَى مَا لَمْ يَمْنَعْ [ مِنْهُ ] مَانِعٌ . وَهَذَا نُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا مَأْخَذُهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّةَ - مِنْ حِلِّ هَذَا الْمَالِ لِزَيْدٍ وَحُرْمَتِهِ عَلَى عَمْرٍو - لَمْ يَشْرَعْهَا الشَّارِعُ شَرْعًا جُزْئِيًّا ، وَإِنَّمَا شَرَعَهَا شَرْعًا كُلِّيًّا ، مِثْلَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=275وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) [ الْبَقَرَةِ : 276 ] ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=24وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ )
[ ص: 279 ] [ النِّسَاءِ : 24 ] ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=3فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ) [ النِّسَاءِ : 3 ] . وَهَذَا الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ ثَابِتٌ ، سَوَاءٌ وُجِدَ هَذَا الْبَيْعُ الْمُعَيَّنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ . فَإِذَا وُجِدَ بَيْعٌ مُعَيَّنٌ أَثْبَتَ مِلْكَهَا مُعَيَّنًا ، فَهَذَا الْمُعَيَّنُ سَبَبُهُ فِعْلُ الْعَبْدُ ، فَإِذَا رَفَعَهُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ هُوَ بِفِعْلِهِ ، لَا مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُكْمِ [ الْكُلِّيِّ ، إِذْ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُكْمِ ] الْجُزْئِيِّ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ سَبَبُهُ فَقَطْ لِأَنَّ ، الشَّارِعَ أَثْبَتَهُ ابْتِدَاءً .
وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ رَفْعَ الْحُقُوقِ بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ مِثْلُ نَسْخِ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ لَا يُزِيلُهُ إِلَّا الَّذِي أَثْبَتَهُ وَهُوَ الشَّارِعُ . وَأَمَّا هَذَا الْمُعَيَّنُ فَإِنَّمَا ثَبَتَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ أَدْخَلَهُ فِي الْمُطْلَقِ ، فَإِدْخَالُهُ فِي الْمُطْلَقِ إِلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ إِخْرَاجُهُ : إِذِ الشَّارِعُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ فِي الْمُعَيَّنِ بِحُكْمٍ أَبَدًا ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الثَّوْبُ بِعْهُ أَوْ لَا تَبِعْهُ ، أَوْ هَبْهُ أَوْ لَا تَهَبْهُ ، وَإِنَّمَا [ حُكْمُهُ ] عَلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي إِذَا أُدْخِلَ فِيهِ الْمُعَيَّنُ عَلَى حُكْمِ الْمُعَيَّنِ .
فَتَدَبَّرْ هَذَا ، وَفَرِّقْ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ الْخَاصِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْعَبْدُ بِإِدْخَالِهِ فِي الْمُطْلَقِ ، وَبَيْنَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ مِنَ الْعَبْدِ . وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27608الْعُقُودَ لَا يَحْرُمُ مِنْهَا إِلَّا مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ ، فَإِنَّمَا وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْوَفَاءَ بِهَا مُطْلَقًا ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، عَلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِهَا مِنَ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الْمِلَلُ ، بَلْ وَالْعُقَلَاءُ جَمِيعُهُمْ . وَقَدْ أَدْخَلَهَا فِي الْوَاجِبَاتِ الْعَقْلِيَّةِ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ ، فَفِعْلُهَا ابْتِدَاءً لَا يَحْرُمُ إِلَّا بِتَحْرِيمِ الشَّارِعِ ، وَالْوَفَاءُ بِهَا وَجَبَ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ إِذًا وَلِإِيجَابِ الْعَقْلِ أَيْضًا .