ذكر قس الناطف ، ويقال لها : الجسر ، ويقال : المروحة ، وقتل وقعة أبي عبيد بن مسعود
ولما رجع الجالينوس إلى رستم منهزما ومن معه من جنده قال رستم : أي العجم [ ص: 277 ] أشد على العرب ؟ قال : بهمن جاذويه المعروف بذي الحاجب - وإنما قيل له ذو الحاجب لأنه كان يعصب حاجبيه بعصابة ليرفعهما كبرا . فوجهه ومعه فيلة ، ورد الجالينوس معه وقال لبهمن : إن انهزم الجالينوس ثانية فاضرب عنقه . فأقبل بهمن جاذويه ومعه درفش كابيان راية ، وكانت من جلود النمر ، عرض ثمانية أذرع ، وطول اثني عشر ذراعا ، فنزل كسرى بقس الناطف . وأقبل أبو عبيد فنزل بالمروحة ، فرأت دومة - امرأته أم المختار ابنه - أن رجلا نزل من السماء بإناء فيه شراب ، فشرب أبو عبيد ومعه نفر ، فأخبرت بها أبا عبيد فقال : لهذه إن شاء الله شهادة ! وعهد إلى الناس فقال : إن قتلت فعلى الناس فلان ، فإن قتل فعليهم فلان ، حتى أمر الذين شربوا من الإناء ، ثم قال : فإن قتل فعلى الناس المثنى .
وبعث إليه بهمن جاذويه : إما أن تعبر إلينا وندعكم والعبور ، وإما أن تدعونا نعبر إليكم . فنهاه الناس عن العبور ، ونهاه سليط أيضا ، فلج وترك الرأي وقال : لا يكونوا أجرأ على الموت منا . فعبر إليهم على جسر عقده ابن صلوبا للفريقين ، وضاقت الأرض بأهلها واقتتلوا ، فلما نظرت الخيول إلى الفيلة ، والخيل عليها التجافيف ، رأت شيئا منكرا لم تكن رأت مثله ، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم عليهم خيولهم ، وإذا حملت الفرس على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت خيولهم وكراديسهم ورموهم بالنشاب . واشتد الأمر بالمسلمين ، فترجل أبو عبيد والناس ، ثم مشوا إليهم ثم صافحوهم بالسيوف ، فجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ، فنادى أبو عبيد : احتوشوا الفيلة واقطعوا بطانها واقلبوا عنها أهلها ، ووثب هو على الفيل الأبيض فقطع بطانه ووقع الذين عليه ، وفعل القوم مثل ذلك ، فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه . وأهوى الفيل لأبي عبيد ، فضربه أبو عبيد بالسيف ، وخبطه الفيل بيده فوقع ، فوطئه الفيل وقام عليه . فلما بصر به الناس تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم ، ثم أخذ اللواء الذي كان أمره بعده ، فقاتل حتى تنحى عن أبي عبيد ، فأخذه المسلمون فأحرزوه ، ثم قتل الفيل الأمير الذي بعد أبي عبيد ، وتتابع سبعة أنفس من ثقيف ، كلهم يأخذ اللواء ويقاتل حتى يموت ، ثم أخذ اللواء المثنى ، فهرب عنه الناس .
[ ص: 278 ] فلما رأى عبد الله بن مرثد الثقفي ما لقي أبو عبيد وخلفاؤه ، وما يصنع الناس بادرهم إلى الجسر فقطعه وقال : يا أيها الناس ، موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا ! وحاز المشركون المسلمين إلى الجسر ، فتواثب بعضهم إلى الفرات فغرق من لم يصبر ، وأسرعوا فيمن صبر . وحمى المثنى وفرسان من المسلمين الناس وقال : إنا دونكم فاعبروا على هينتكم ، ولا تدهشوا ، ولا تغرقوا نفوسكم . وقاتلعروة بن زيد الخيل قتالا شديدا وأبو محجن الثقفي ، وقاتل أبو زبيد الطائي حمية للعربية ، وكان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره ، ونادى المثنى : من عبر نجا . فجاء العلوج فعقدوا الجسر وعبر الناس .
وكان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس ، وعبر المثنى وحمى جانبه ، فلما عبر ارفض عنه أهل المدينة وبقي المثنى في قلة ، وكان قد جرح وأثبت فيه حلق من درعه .
وأخبر عمر عمن سار في البلاد من الهزيمة استحياء ، فاشتد عليه وقال : اللهم إن كل مسلم في حل مني ، أنا فئة كل مسلم ، يرحم الله أبا عبيد ! لو كان انحاز إلي لكنت له فئة .
وهلك من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق ، وهرب ألفان ، وبقي ثلاثة آلاف ، وقتل من الفرس ستة آلاف .
وأراد بهمن جاذويه العبور خلف المسلمين ، فأتاه الخبر باختلاف الفرس ، وأنهم قد ثاروا برستم ، ونقضوا الذي بينهم وبينه ، وصاروا فريقين : الفهلوج على رستم ، وأهل فارس على الفيرزان ، فرجع إلى المدائن .
وكانت هذه الوقعة في شعبان .
[ ص: 279 ] وكان فيمن قتل بالجسر عقبة وعبد الله ابنا قيظى بن قيس ، وكانا شهدا أحدا ، وقتل معهما أخوهما عباد ، ولم يشهد معهما أحدا ، وقتل أيضا قيس بن السكن بن قيس أبو زيد الأنصاري ، وهو بدري لا عقب له ، وقتل يزيد بن قيس بن الحطيم الأنصاري ، شهد أحدا ، وفيها قتل أبو أمية الفزاري ، له صحبة ، والحكم بن مسعود أخو أبي عبيد ، وابنه جبر بن الحكم بن مسعود .