[ ص: 693 ] ذكر الفرنج مدينة صور بالشام ملك
كانت مدينة صور للخلفاء العلويين بمصر ، ولم تزل كذلك إلى سنة ست وخمسمائة ، فكان بها وال من جهة الأفضل أمير الجيوش ، وزير الآمر بأحكام الله العلوي ، يلقب عز الملك ، وكان الفرنج قد حصروها ، وضيقوا عليها ، ونهبوا بلدها غير مرة ، فلما كانت سنة ست تجهز ملك الفرنج ، وجمع عساكره ليسير إلى صور ، فخافهم أهل صور ، فأرسلوا إلى أتابك ، صاحب طغتكين دمشق ، يطلبون منه أن يرسل إليهم أميرا من عنده يتولاهم ويحميهم ، ويكون البلد له ، وقالوا له : إن أرسلت إلينا واليا ، وعسكرا ، وإلا سلمنا البلد إلى الفرنج ، فسير إليهم عسكرا ، وجعل عندهم واليا اسمه مسعود ، وكان شهما ، شجاعا ، عارفا بالحرب ومكايدها ، وأمده بعسكر ، وسير إليهم ميرة ومالا فرقه فيهم .
وطابت نفوس أهل البلد ، ولم تغير الخطبة للآمر ، صاحب مصر ، ولا السكة ، وكتب إلى الأفضل بمصر يعرفه صورة الحال ، ويقول : متى وصل إليها من مصر من يتولاها ، ويذب عنها ، سلمتها إليه ، ويطلب أن الأسطول لا ينقطع عنها بالرجال والقوة . فشكره الأفضل على ذلك ، وأثنى عليه ، وصوب رأيه فيما فعله ، وجهز أسطولا ، وسيره إلى صور ، فاستقامت أحوال أهلها .
ولم يزل كذلك إلى سنة ست عشرة ، بعد قتل الأفضل ، فسير إليها أسطول ، على جاري العادة ، وأمروا المقدم على الأسطول أن يعمل الحيلة على الأمير مسعود الوالي بصور من قبل ، ويقبض عليه ، ويتسلم البلد منه . طغتكين
وكان السبب في ذلك : أن أهل صور أكثروا الشكوى منه إلى الآمر بأحكام الله ، صاحب مصر ، بما يعتمده من مخالفتهم ، والإضرار بهم ، ففعلوا ذلك ، وسار الأسطول فأرسى عند صور ، فخرج مسعود إليه للسلام على المقدم عليه ، فلما صعد إلى المركب الذي فيه المقدم اعتقله ، ونزل البلد ، واستولى عليه وعاد الأسطول إلى مصر ، وفيه الأمير مسعود ، فأكرم وأحسن إليه ، وأعيد إلى دمشق .
وأما الوالي من قبل المصريين فإنه طيب قلوب الناس ، وراسل يخدمه بالدعاء والاعتضاد ، وأن سبب ما فعل هو شكوى أهل طغتكين صور من مسعود ، فأحسن الجواب ، وبذل من نفسه المساعدة . طغتكين
[ ص: 694 ] ولما سمع الفرنج بانصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها ، وحدثوا نفوسهم بملكها ، وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها وحصرها ، فسمع الوالي بها للمصريين الخبر ، فعلم أنه لا قوة له ، ولا طاقة على دفع الفرنج عنها ، لقلة من بها من الجند والميرة ، فأرسل إلى الآمر بذلك ، فرأى أن يرد ولاية صور إلى ، صاحب طغتكين دمشق ، فأرسل إليه بذلك ، فملك صور ، ورتب بها من الجند وغيرهم ما ظن فيه كفاية .
وسار الفرنج إليهم ونازلوهم في ربيع الأول من هذه السنة ، وضيقوا عليهم ، ولازموا القتال ، فقلت الأقوات ، وسئم من بها القتال ، وضعفت نفوسهم ، وسار إلى طغتكين بانياس ليقرب منهم ، ويذب عن البلد ، ولعل الفرنج إذا رأوا قربه منهم رحلوا ، فلم يتحركوا ، ولزموا الحصار ، فأرسل إلى طغتكين مصر يستنجدهم ، فلم ينجدوه ، وتمادت الأيام ، وأشرف أهلها على الهلاك ، فراسل حينئذ ، صاحب طغتكين دمشق ، وقرر الأمر على أن يسلم المدينة إليهم ، ويمكنوا من بها من الجند والرعية من الخروج منها بما يقدرون عليه من أموالهم ورحالهم وغيرها ، فاستقرت القاعدة على ذلك ، وفتحت أبواب البلد ، وملكه الفرنج ، وفارقه أهله ، وتفرقوا في البلاد ، وحملوا ما أطاقوا ، وتركوا ما عجزوا عنه ، ولم يعرض الفرنج لأحد منهم ، ولم يبق إلا الضعيف عجز عن الحركة .
وملك الفرنج البلد في الثالث والعشرين من جمادى الأولى من السنة ، وكان فتحه وهنا عظيما على المسلمين ، فإنه من أحصن البلاد وأمنعها ، فالله يعيده إلى الإسلام ، ويقر أعين المسلمين بفتحه ، بمحمد وآله .