ذكر قابس والمهدية حصار
في هذه السنة جهز علي بن يحيى ، صاحب إفريقية ، أسطولا في البحر إلى مدينة قابس ، وحصرها .
وسبب ذلك أن صاحبها رافع بن مكن الدهماني أنشأ مركبا بساحلها ليحمل التجار في البحر ، وكان ذلك آخر أيام الأمير يحيى ، فلم ينكر يحيى ذلك جريا على عادته في المداراة ، فلما ولي علي الأمر ، بعد أبيه ، أنف من ذلك وقال : لا يكون لأحد من أهل إفريقية أن يناوئني في إجراء المراكب في البحر بالتجار ، فلما خاف رافع أن يمنعه علي التجأ إلى اللعين رجار ملك الفرنج بصقلية ، واعتضد به ، فوعده رجار أن ينصره ويعينه على إجراء مركبه في البحر ، وأنفذ في الحال أسطولا إلى قابس ، فاجتازوا بالمهدية ، فحينئذ تحقق علي اتفاقهما ، وكان يكذبه .
فلما جاز أسطول رجار بالمهدية أخرج علي أسطوله في أثره ، فتوافى الجميع إلى قابس ، فلما رأى صاحبها أسطول الفرنج والمسلمين لم يخرج مركبه ، فعاد أسطول الفرنج ، وبقي أسطول علي يحصر رافعا بقابس مضيقا عليها .
ثم عادوا إلى المهدية ، وتمادى رافع في المخالفة لعلي ، وجمع قبائل العرب ، وسار بهم ، حتى نزل على المهدية محاصرا لها وخادع عليا ، وقال : إنني إنما جئت للدخول في الطاعة ، وطلب من يسعى في الصلح ، وأفعاله تكذب أقواله ، فلم يجبه عن ذلك بحرف ، وأخرج العساكر ، وحملوا على رافع ومن معه حملة منكرة ، فألحقوهم بالبيوت ، ووصل العسكر إلى البيوت ، فلما رأى ذلك النساء صحن ، وولولن ، فغارت العرب ، وعاودت القتال واشتد حينئذ الأمر إلى المغرب ، ثم افترقوا ، وقد قتل من عسكر رافع بشر كثير ، ولم يقتل من جند علي غير رجل واحد من الرجالة .
ثم خرج عسكر علي مرة أخرى ، فاقتتلوا أشد من القتال الأول ، كان الظهور فيه [ ص: 623 ] لعسكر علي ، فلما رأى رافع أنه لا طاقة له بهم رحل عن المهدية ليلا إلى القيروان ، فمنعه أهلها من دخولها ، فقاتلهم أياما قلائل ، ثم دخلها ، فأرسل علي إليه عسكرا من المهدية ، فحصروه فيها إلى أن خرج عنها ، وعاد إلى قابس ، ثم إن جماعة من أعيان إفريقية ، من العرب وغيرهم ، سألوا عليا في الصلح ، فامتنع ، ثم أجاب إلى ذلك ، وتعاهد عليه .