[ ص: 597 ] ذكر أبي عبد الله إلى سجلماسة وظهور المهدي مسير
لما استقرت الأمور لأبي عبد الله ( في رقادة وسائر بلاد إفريقية ) أتاه أخوه أبو العباس محمد ، ففرح به ، وكان هو الكبير ، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقادة ، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العباس ، وأبا زاكي ، وسار في جيوش عظيمة ، فاهتز المغرب لخروجه ، وخافته زناتة ، وزالت القبائل عن طريقه ، وجاءت رسلهم ودخلوا في طاعته .
فلما قرب من سجلماسة ، ( وانتهى خبره إلى أليسع بن مدرار ، أمير سجلماسة ) ، أرسل إلى المهدي ، وهو في حبسه ، على ما ذكرناه ، يسأله عن نسبه وحاله ، وهل إليه قصد أبو عبد الله ؟ فحلف له المهدي أنه ما رأى أبا عبد الله ، ( ولا عرفه ) ، وإنما أنا رجل تاجر ، فاعتقل في دار وحده ، وكذلك فعل بولده أبي القاسم ، وجعل عليهما الحرس ، وقرر ولده أيضا ، فما حال عن كلام أبيه ، وقرر رجالا كانوا معه ، ( وضربهم ) ، فلم يقروا بشيء .
وسمع أبو عبد الله ذلك ، فشق عليه ، فأرسل إلى أليسع يتلطفه ، وأنه لم يقصد الحرب ، وإنما له حاجة مهمة عنده ، ووعده الجميل ، فرمى الكتاب ، وقتل الرسل ، فعادوه بالملاطفة خوفا على المهدي ، ولم يذكره له ، فقتل الرسول أيضا ، فأسرع أبو عبد الله في السير ، ونزل عليه ، فخرج إليه أليسع ، وقاتله يومه ذلك ، ( وافترقوا ) ، فلما جنهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمه ، وبات أبو عبد الله ومن معه في غم عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهدي وولده ، فلما أصبح خرج إليه أهل البلد ، وأعلموه بهرب أليسع ، فدخل هو وأصحابه البلد ، وأتوا [ ص: 598 ] المكان الذي فيه المهدي ، فاستخرجه ، واستخرج ولده ، فكانت في الناس مسرة عظيمة كادت تذهب بعقولهم ، فأركبهما ، ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما ، وأبو عبد الله يقول للناس : هذا مولاكم ، ( وهو يبكي ) من شدة الفرح ، حتى وصل إلى فسطاط قد ضرب له فنزل فيه ، وأمر بطلب أليسع ( فطلب ) ، فأدرك ، فأخذ وضرب السياط ثم قتل .
فلما ظهر المهدي أقام بسجلماسة أربعين يوما ، وسار إلى إفريقية ، وأحضر الأموال من إنكجان ، فجعلها أحمالا وأخذها معه ، ووصل إلى رقادة العشر الأخير ( من ربيع الآخر ) من سنة سبع وتسعين ومائتين ، وزال ملك بني الأغلب ، وملك بني مدرار الذين منهم أليسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة ، وزال ملك بني رستم من تاهرت ، ولهم ستون ومائة سنة تفردوا بتاهرت ، وملك المهدي جميع ذلك . فلما قرب من رقادة تلقاه أهلها ، وأهل القيروان ، وأبو عبد الله ، ورؤساء كتامة مشاة بين يديه ، وولده خلفه ، فسلموا عليه ، فرد [ ردا ] جميلا ، وأمرهم بالانصراف ، ونزل بقصر من قصور رقادة ، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد ، وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين .
وجلس بعد الجمعة رجل يعرف بالشريف ، ومعه الدعاة ، وأحضروا الناس بالعنف والشدة ، ودعوهم إلى مذهبهم ، ( فمن أجاب أحسن إليه ، ومن أبى حبس ، فلم يدخل في مذهبهم ) إلا بعض الناس ، وهم قليل ، وقتل ( كثير ممن ) لم يوافقهم على قولهم .
وعرض عليه أبو عبد الله جواري زيادة الله ، فاختار منهن كثيرا لنفسه ولولده أيضا ، وفرق ما بقي على وجوه كتامة ، وقسم عليهم أعمال إفريقية ، ودون الدواوين ، وجبى [ ص: 599 ] الأموال ، واستقرت قدمه ، ودانت له أهل البلاد ، واستعمل العمال عليها جميعها ، فاستعمل على جزيرة صقلية الحسن بن أحمد بن أبي خنزير ، ( فوصل إلى مازر عاشر ) ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومائتين ، ( فولى أخاه على جرجنت ) ، وجعل قاضيا بصقلية إسحاق بن المنهال ، وهو أول قاض تولى بها للمهدي العلوي .
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين [ ومائتين ] ، فسار في عسكره إلى دمنش ، فغنم ، وسبى ، وأحرق ، وعاد فبقي مدة يسيرة ، وأساء السيرة في أهلها ، فثاروا به ، وأخذوه وحبسوه ، وكتبوا إلى المهدي بذلك ، واعتذروا ، فقبل عذرهم ، واستعمل عليهم علي بن عمر البلوي ، فوصل آخر ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين .