ذكر عمرو الصفار وملك إسماعيل خراسان أسر
في هذه السنة ، في ربيع الأول أسر ; وكان سبب ذلك أن عمرو بن الليث الصفار عمرا أرسل إلى المعتضد برأس ، وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر ، فوجه إليه الخلع واللواء بذلك ، وهو رافع بن هرثمة بنيسابور ، فوجه لمحاربة صاحب إسماعيل بن أحمد الساماني ما وراء النهر محمد بن بشير ، وكان خليفته وحاجبه ، وأخص أصحابه بخدمته ، وأكبرهم عنده ، وغيره من قواده إلى آمل ، فعبر إليهم إسماعيل جيحون ، فحاربهم ، فهزمهم ، وقتل محمد بن بشير في نحو ستة آلاف رجل .
وبلغ المنهزمون إلى عمرو ، وهو بنيسابور ، وعاد إسماعيل إلى بخارى فتجهز عمرو لقصد إسماعيل ، فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش ، ولا يخاطر بنفسه ، فلم يقبل منهم ، وسار عن نيسابور نحو بلخ ، فأرسل إليه إسماعيل : إنك قد وليت دنيا عريضة ، وإنما في يدي ما وراء النهر ، وأنا في ثغر ، فاقنع بما في يدك ، واتركني في هذا الثغر . فأبى ، فذكر لعمرو ، وأصحابه شدة العبور بنهر بلخ ، فقال : لو شئت أن أسكره ببذر الأموال ، وأعبره لفعلت .
فسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربي ، وجاء عمرو فنزل بلخ ، وأخذ [ ص: 512 ] إسماعيل عليه النواحي لكثرة جمعه ، وصار عمرو كالمحاصر ، وندم على ما فعل ، وطلب المحاجزة ، فأبى إسماعيل عليه ، فاقتتلوا ، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم عمرو فولى هاربا ، ومر بأجمة في طريقه ، فقيل له : إنها أقرب الطرق ، فقال لعامة من معه : امضوا في الطريق الواضح ; وسار هو في نفر يسير ، فدخل الأجمة ، فوحلت به دابته فلم يكن له في نفسه حيلة ، ومضى من معه ولم يعرجوا عليه ، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا ، فسيره إسماعيل إلى سمرقند .
ولما وصل الخبر إلى المعتضد ذم عمرا ومدح إسماعيل ، ثم إن إسماعيل خير عمرا بين مقامه عنده ، أو إنفاذه إلى المعتضد ، فاختار المقام عند المعتضد ، فسيره إليه ، فوصل إلى بغداذ سنة ثمان وثمانين ومائتين ، فلما وصل ركب على جمل وأدخل بغداذ ، ثم حبس ، فبقي محبوسا حتى قتل سنة تسع وثمانين ومائتين على ما نذكره .
وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بالخلع ، وولاه ما كان بيد عمرو ، وخلع على نائبه بالحضرة المعروف بالمرزباني ، واستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده .
وكان عمرو أعور شديد السمرة ، عظيم السياسة ، قد منع أصحابه وقواده أن ( يضرب أحد منهم غلاما ) إلا بأمره ، أو يتولى عقوبة الغلام نائبه ، أو أحد حجابه ، وكان يشتري المماليك الصغار ، ويربيهم ، ويهبهم لقواده ويجري عليهم الجرايات الحسنة سرا ، ليطالعوه بأحوال قواده ، ولا ينكتم عنه من أخبارهم شيء ، ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم ، فكان أحدهم يحذره وهو وحده .
حكي عنه أنه كان له عامل بفارس يقال له أبو حصين ، فسخط عليه عمرو ، وألزمه أن يبيع أملاكه ، ( ويوصل ثمنها إليه ) ، ففعل ذلك ، ثم طلب منه مائة ألف درهم ، فإن أداها في ثلاثة أيام وإلا قتله ، فلم يقدر على شيء منها ، فأرسل إلى أبي سعيد الكاتب يطلب منه أن يجتمع به ، فأذن له ، فاجتمع به ، وعرفه ضيق يده وسأله أن يضمنه ليخرج [ ص: 513 ] من محبسه ويسعى في تحصيل المبلغ المطلوب منه ، ففعل وأخرجه ، فلم يفتح عليه بشيء ، فعاد إلى أبي سعيد الكاتب ، فبلغ خبره عمرا ، فقال : والله ما أدري من أيهما أعجب ، من أبي سعيد فيما فعل من بذل مائة ألف درهم ، أم من أبي حصين كيف عاد وقد علم أنه القتل ! ثم أمر بإطلاق ما عليه ورده إلى منزلته .
وحكي عنه أنه كان يحمل أحمالا كثيرة من الجرب ، ولا يعلم أحد ما مراده ، فاتفق في بعض السنين أنه قصد طائفة من العصاة عليه ( للإيقاع بهم ) ، فسلك طريقا لا تظن العصاة أنهم يؤتون منه ، وكان في طريقه واد ، فأمر بتلك الجرب فملئت ترابا ، وأحجارا ، ونضد بعضها إلى بعض ، وجعلها طريقا في الوادي ، فعبر أصحابه عليها ، وأتاهم وهم آمنون فأثخن فيهم وبلغ منهم ما أراد .
وحكي أيضا أن أكبر حجابه كان اسمه محمد بن بشير ، وكان يخلفه في كثير من أموره العظام ، فدخل عليه يوما ، وأخذ يعدد عليه ذنوبه ، فحلف محمد بالله والطلاق والعتق أنه لا يملك إلا خمسين بدرة ، وهو يحملها إلى الخزانة ، ولا يجعل له ذنبا لم يعلمه ، فقال عمرو : ما أعقلك من رجل ! احملها إلى الخزانة ، فحملها ، فرضي عنه ، وما أقبح هذا من فعل ( وشره إلى أموال ) من أذهب عمره في خدمته !