[ ص: 410 ] ذكر الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربية استيلاء
لما هدم الموفق دور الخبيث أمر بإصلاح المسالك لتتسع على المقاتلة الطريق للحرب ، ثم رأى قلع الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب ، لما في ذلك من معاونة بعضهم بعضا ، وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصبا ويجعل فيه من النفط ، ويوضع في وسطها دقل طويل يمنعها من مجاورة الجسر إذا التصقت به ، ثم أرسلها عند غفلة الزنج ، وقوة المد ، فوافت الجسر ، وعلم بها الزنج ، فأتوها ، وطموها بالحجارة ، والتراب ، ونزل بعضهم ( في الماء فنقبها ) فغرقت ، وكان قد احترق من الجسر شيء يسير ، فأطفأه الزنج .
فعند ذلك اهتم الموفق بالجسر ، فندب أصحابه ، وأعد النفاطين ، والفعلة ، والفئوس ، وأمرهم بقصده من غربي النهر ، وشرقيه ، وركب الموفق في أصحابه ، وقصد فوهة نهر أبي الخصيب ، وذلك منتصف شوال سنة تسع وستين [ ومائتين ] ، فسبق الطائفة التي في غرب النهر ، فهزم الموكلين على الجسر ، وهما سليمان بن جامع ، وأنكلاي ولد الخبيث ، وأحرقوه .
وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى ، ففعلوا بالجانب الشرقي مثل ذلك ، وأحرقوا الجسر ، وتجاوزوه إلى جانب حظيرة كانت تعمل فيها سميريات الخبيث ، وآلاته ، واحترق ذلك عن آخره ، إلا شيئا يسيرا من الشذوات ، والسميريات كانت في النهر ، وقصدوا سجنا للخبيث ، فقاتلهم الزنج عليه ساعة من النهار ، ثم غلبهم أصحاب الموفق عليه ، فأطلقوا من فيه ، وأحرقوا كل ما مروا به إلى دار مصلح ، وهو من قدماء أصحابه ، فدخلوها ، فنهبوها وما فيها ، وسبوا نساءه ، وولده ، واستنقذوا خلقا كثيرا ، وعاد الموفق وأصحابه سالمين .
وانحاز الخبيث ، وأصحابه من هذا الجانب إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ، واستولى الموفق على الجانب الغربي غير طريق يسير على الجسر الثاني ، فأصلحوا الطرق ، فزاد ذلك في رعب الخبيث ، وأصحابه ، فاجتمع كثير من أصحابه [ ص: 411 ] وقواده ، وأصحابه الذين كان يرى أنهم لا يفارقونه ، على طلب الأمان ، فبذل لهم ، فخرجوا أرسالا ، فأحسنالموفق إليهم ، وألحقهم بأمثالهم .
ثم إن الموفق أحب أن يتمرن أصحابه بسلوك النهر ليحرق الجسر الثاني ، فكان يأمرهم بإدخال الشذا فيه ، وإحراق ما على جانبه من المنازل ، فهرب إليه بعض الأيام قائد للزنج ، ومعه قاض كان لهم ، ومنبر ، ففت ذلك في أعضاد الخبثاء .
ثم إن الخبيث وكل بالجسر الثاني من يحفظه ، وشحنه بالرجال ، فأمر الموفق بعض أصحابه بإحراق ما عند الجسر من سفن ، ( ففعلوا حتى أحرقوها ) ، فزاد ذلك في احتياط الخبيث ، وفي حراسته للجسر لئلا يحرق ويستولي الموفق على الجانب الغربي فيهلك .
وكان قد تخلف من أصحابه جمع في منازلهم المقاربة للجسر الثاني ، وكان أصحاب الموفق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفية ، فلما عرفوا ذلك عزموا على إحراق الجسر الثاني ، فأمر الموفق ابنه أبا العباس ، والقواد بالتجهز لذلك ، وأمرهم أن يأتوا من عدة جهات ليوافوا الجسر ، وأعد معهم الفئوس ، والنفط ، والآلات ، ودخل هو في النهر بالشذوات ، ومعه أنجاد غلمانه ، ومعه الآلات أيضا ، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعا بين الفريقين ، واشتد القتال .
وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الخبيث ، وسليمان بن جامع ، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد مولى الموفق ، ومن معه الخبيث ، والمهلبي في باقي الجيش ، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات ، ثم انهزم الخبثاء لا يلوون على شيء ، وأخذت السيوف منهم ، ودخل أصحاب الشذا النهر ، ودنوا من الجسر فقاتلوا من يحميه بالسهام ، وأضرموا نارا .
وكان من المنهزمين سليمان ، وأنكلاي ، وكانا قد أثخنا بالجراح ، فوافيا الجسر ، والنار فيه ، فحالت بينهما وبين العبور ، وألقيا أنفسهما في النهر ومن معهما ، فغرق منهم خلق كثير ، وأفلت أنكلاي ، وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك ، وقطع الجسر ، وأحرق ، وتفرق الجيش في مدينة الخبيث في الجانبين ، فأحرقوا من دورهم وقصورهم ، وأسواقهم شيئا كثيرا ، واستنقذوا من ( النساء ، والصبيان ما لا يحصى ، ودخلوا الدار التي كان الخبيث [ ص: 412 ] سكنها بعد ) إحراق قصره ، وأحرقوها ونهبوا ما كان فيها مما كان سلم معه ، وهرب الخبيث ولم يقف ذلك اليوم على مواضع أمواله .
واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويات كن محبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها ، فأحسن الموفق إليهن ، وحملهن ، وفتح سجنا ، كان له وأخرج منه خلقا كثيرا ممن كان يحارب الخبيث ، ففك الموفق عنهم الحديد ، وأخرج ذلك اليوم كل ما كان في نهر أبي الخصيب من شذا ، ومراكب بحرية ، وسفن صغار ، وكبار ، وحراقات ، وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة ، فأباحها الموفق أصحابه مع ما فيها من السلب ، وكانت له قيمة عظيمة .
وأرسل أنكلاي ابن الخبيث يطلب الأمان ، وسأل أشياء ، فأجابه الموفق إليها ، فعلم أبوه بذلك فعذله ، ورده عما عزم عليه ، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال .
ووجه سليمان بن موسى الشعراني ، وهو أحد رؤساء الخبيث ، يطلب الأمان ، فلم يجبه الموفق إلى ذلك ، لما كان قد تقدم منه من سفك الدماء والفساد ، فاتصل به أن جماعة من ( رؤساء ) أصحاب الخبيث قد استوحشوا المنعة ، فأجابه إلى الأمان ، فأرسل الشذا إلى موضع ذكره ، فخرج هو وأخوه ، وأهله ، وجماعة من قواده ، فأرسل الخبيث من يمنعهم عن ذلك ، فقاتلهم ، ووصل إلى الموفق ، فزاد في الإحسان إليه ، وخلع عليه وعلى من معه ، وأمر بإظهاره لأصحاب الخبيث ليزدادوا ثقة ، فلم يبرح من مكانه ، حتى استأمن جماعة من قواد الزنج منهم شبل بن سالم ، فأجابه الموفق ، وأرسل إليه شذوات ، فركب فيها هو وعياله ، وولده ، وجماعة من قواده ، فلقيهم قوم من الزنج ، فقاتلهم ، ونجا ، ووصل إلى الموفق ، فأحسن إليه ووصله بصلة جليلة ، وهو من قدماء أصحاب الخبيث ، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم في الأمان .
ولما رأى الموفق مناصحة شبل ، وجودة فهمه ، أمره أن يكفيه بعض الأمور ، فسار ليلا في جمع من الزنج ، لم يخالطهم غيرهم ، إلى عسكر الخبيث يعرف مكانهم ، وأوقع [ ص: 413 ] بهم ، وأسر منهم ، وقتل ، وعاد ، فأحسن إليه الموفق ، وإلى أصحابه .
وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل ، ولا يزالون يتحارسون للرعب الذي دخلهم ، وأقام الموفق ينفذ السرايا إلى الخبيث ، ويكيده ، ويحول بينه وبين القوت ، وأصحاب الموفق يتدربون في سلوك تلك المضايق التي في أرضه ويوسعونها .