[ ص: 45 ] ذكر العباس بن المأمون حبس
في هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون ، وأمر بلعنه .
وكان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم لما كان ملك الروم بزبطرة ، مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه ، لم يطلق يد عجيف في النفقات ، كما أطلقت يد الأفشين ، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله ، وظهر ذلك لعجيف ، فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة ، حتى بايع المأمون المعتصم ، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه .
فقبل العباس قوله ، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي ، قرابة عبيد الله بن الوضاح ، ( وكان العباس يأنس به ) ، وكان الحارث أديبا له عقل ومداراة ، فجعله العباس رسوله ، وسفيره إلى القواد ، وكان يدور في العسكر ، حتى استمال له جماعة من القواد ، وبايعوه وجماعة من خواص المعتصم ، وقال لكل من بايعه : إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هو معه ، فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله ، ومن بايعه من خاصة الأفشين بقتله ، ومن بايعه من خاصة أشناس بقتله ، وكذلك غيرهم فضمنوا له ذلك .
فلما دخل الدرب ، وهم يريدون أنقرة وعمورية ، دخل الأفشين من ناحية ملطية ، فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب ، وهو في قلة من الناس ، فيقتله ويرجع إلى بغداذ ، ( فإن الناس يفرحون بانصرافهم إلى بغداذ ) من الغزو ، فأبى العباس ذلك ، وقال : لا أفسد هذه الغزوة ، حتى دخلوا بلاد الروم ، وافتتحوا عمورية ، فقال عجيف للعباس : يا نائم ! قد فتحت عمورية ، والرجل ممكن ، تضع قوما ينهبون بعض الغنائم ، فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة ، فتأمر بقتله هناك ، فأبى عليه ، وقال : انتظر حتى يصير إلى الدروب ، ويخلو كما كان أول مرة ، وهو أمكن منه هاهنا .
وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع ، ففعلوا ، وركب المعتصم ، وجاء ركضا ، [ ص: 46 ] وسكن الناس ، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الذين واعدهم وكرهوا قتله بغير أمر العباس .
وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم ، وله قرابة غلام أمرد في خاصة المعتصم ، فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني ، وشرب عندهم تلك الليلة ، فأخبرهم خبر ركوب المعتصم ، وأنه كان معه ، وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه ، فسمع عمر ذلك من الغلام ، فأشفق عليه من أن يصاب فقال : يا بني ! أقلل من المقام عند أمير المؤمنين ، والزم خيمتك ، وإن سمعت صيحة وشغبا فلا تبرح ، فإنك غلام غر ، ولا تعرف العساكر ، فعرف مقالة عمر .
وارتحل المعتصم إلى الثغور ، ووجه الأفشين ابن الأقطع ، وأمره أن يغير على بعض المواضع ، ويوافيه في الطريق ، فمضى وأغار ، وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم ، فنزل بعسكر الأفشين ، وكان كل عسكر على حدة ، فتوجه عمر الفرغاني ، وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئا ، فلقيهما الأفشين فترجلا ، وسلما عليه ، وتوجها إلى الغنيمة ، فرآهما صاحب أشناس ، فأعلمه بهما ، فأرسل أشناس إليهما بعض أصحابه; لينظر ما يصنعان ، فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي ، فرجع ، فأخبر أشناس الخبر ، فقال أشناس لحاجبه : قل لهما يلزما العسكر ، وهو خير لهما ، فقال لهما ، فاغتما لذلك ، واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر ، فيستعفياه من أشناس ، فأتياه وقالا : نحن عبيد أمير المؤمنين ، فضمنا إلى من تشاء ، فإن هذا الرجل يستخف بنا ، قد شتمنا ، وتوعدنا ، ونحن نخاف أن يقدم علينا ، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد .
فأنهى ذلك إلى المعتصم ، واتفق على الرحيل ، وسار أشناس والأفشين مع المعتصم ، فقال لأشناس : أحسن أدب عمر وأحمد ، فإنهما قد حمقا أنفسهما ! فجاء أشناس إلى عسكره ، فأخذهما ، وحبسهما ، وحملهما على بغل ، حتى صار بالصفصاف ، فجاء ذلك الغلام ، وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة ، فأنفذ المعتصم بغا ، وأخذ عمر من عند أشناس ، وسأله عن الذي قاله للغلام ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان سكران ، ولم يعلم ما قلت ، فدفعه إلى إيتاخ ، وسار المعتصم ، فأنفذ إلى أحمد بن الخليل أشناس يقول له : إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين ، فبعث إليه يسأله عنها ، فقال : لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين ، فحلف أشناس : إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت .
[ ص: 47 ] فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس ، وأخبره خبر العباس بن المأمون ، والقواد ، والحارث السمرقندي ، فأنفذ أشناس ، وأخذ الحارث وقيده وسيره إلى المعتصم ، وكان قد تقدم ، فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه ، وبجميع من بايعهم من القواد وغيرهم ، فأطلقه المعتصم ، وخلع عليه ، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم .
وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا ، فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين ، فحبسه عنده .
وتتبع المعتصم أولئك القواد ، وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء ، وأخذ أيضا الشاه بن سهل ، وهو من أهل خراسان ، فقال له المعتصم : يا ابن الزانية ! أحسنت إليك فلم تشكر ، فقال : ابن الزانية هذا ، وأومأ إلى العباس ، وكان حاضرا ، لو تركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس ، وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ، ودفع العباس إلى الأفشين .
فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام ، فقدم إليه طعام كثير ، فأكل ، ومنع الماء ، وأدرج في مسح ، فمات بمنبج ، وصلى عليه بعض إخوته .
وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرا ، وألقاه فيها وطمها عليه .
وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل ، وقيل بل أطعم طعاما كثيرا ، ومنع الماء ، حتى مات بباعيناثا .
وتتبع جميعهم ، فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعا .
ووصل المعتصم إلى سامرا سالما ، فسمى العباس يومئذ اللعين ، وأخذ أولاد من سندس ، فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد . المأمون
[ ص: 48 ] ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكافي كان يتولى إقطاع عجيف ، فرفع أهله عليه إلى عجيف ، فأخذه ، وأراد قتله ، فبال في ثيابه خوفا من عجيف ، ثم شفع فيه ، فقيده وحبسه ، ثم سار إلى الروم ، وأخذه المعتصم ، كما ذكرنا ، وأطلق من كان في حبسه ، ( وكانوا جماعة ) منهم الإسكافي ، ثم استعمل على نواح بالجزيرة ، ومن جملتها باعيناثا ، قال : فخرجت يوما إلى تل باعيناثا ، فاحتجت إلى الوضوء ، فجئت إلى تل فبلت عليه ، ثم توضأت ونزلت ، وشيخ باعيناثا ينتظرني ، فقال لي : في هذا التل قبر عجيف ، وأرانيه ، فإذا [ أنا ] قد بلت عليه ، وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما .