وأما فقد قيل : إنهم كانوا قوما من رؤساء قريش وصناديد العرب مثل المؤلفة قلوبهم أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري والعباس بن مرادس السلمي ومالك بن عوف النصري [ ص: 45 ] وغيرهم ولهم شوكة وقوة وأتباع كثيرة بعضهم أسلم حقيقة وبعضهم أسلم ظاهرا لا حقيقة . وحكيم بن حزام
وكان من المنافقين وبعضهم كان من المسالمين فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقات تطييبا لقلوب المسلمين منهم وتقريرا لهم على الإسلام وتحريضا لأتباعهم على اتباعهم وتأليفا لمن لم يحسن إسلامه ، وقد حسن إسلام عامتهم إلا من شاء الله تعالى لحسن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم معهم وجميل سيرته حتى روي عن قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي . صفوان بن أمية
واختلف في سهامهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامة العلماء إنه انتسخ سهمهم وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعطى الآن لمثل حالهم وهو أحد قولي وقال بعضهم وهو أحد قول الشافعي رضي الله عنه إن حقهم بقي وقد أعطي من بقي من أولئك الذين أخذوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والآن يعطى لمن حدث إسلامه من الكفرة تطييبا لقلبه وتقريرا له على الإسلام ، وتعطي الرؤساء من أهل الحرب إذا كانت لهم غلبة يخاف على المسلمين من شرهم ; لأن المعنى الذي له كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم أولئك موجود في هؤلاء والصحيح قول العامة لإجماع الصحابة على ذلك فإن الشافعي أبا بكر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى وعمر واستبدلوا الخط منه لسهامهم فبدل لهم الخط ، ثم جاءوا إلى أبي بكر رضي الله عنه وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال إن رسول الله : صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام فأما اليوم فقد أعز الله دينه فإن ثبتم على الإسلام وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف فانصرفوا إلى عمر فأخبروه بما صنع أبي بكر رضي الله عنهما وقالوا : أنت الخليفة أم هو ؟ فقال : إن شاء الله هو ولم ينكر عمر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم ينكروا فيكون إجماعا منهم على ذلك ; ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام ولهذا سماهم الله المؤلفة قلوبهم والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد واليوم بحمد الله عز الإسلام وكثر أهله واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء ، والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى . أبو بكر
ونظيره ما كان عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من المشركين لحاجته إلى معاهدتهم ومداراتهم لقلة أهل الإسلام وضعفهم فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلى أهل العهود عهودهم وأن يحارب المشركين جميعا بقوله عز وجل { : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } إلى قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .
وأما قوله تعالى : { وفي الرقاب } فقد قال بعض أهل التأويل : معناه وفي عتق الرقاب ويجوز وهو قول إعتاق الرقبة بنية الزكاة ، وقال عامة أهل التأويل : الرقاب المكاتبون قوله تعالى { مالك : وفي الرقاب } أي : وفي فك الرقاب وهو أن يعطى المكاتب شيئا من الصدقة يستعين به على كتابته ; لما روي { } وإنما جاز دفع الزكاة إلى المكاتب ليؤدي بدل كتابته فيعتق . أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال علمني عملا يدخلني الجنة فقال صلى الله عليه وسلم : أعتق النسمة وفك الرقبة ، فقال الرجل : أوليسا سواء ؟ قال : لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها
ولا يجوز ابتداء الإعتاق بنية الزكاة لوجهين : أحدهما ما ذكرنا أن الواجب إيتاء الزكاة والإيتاء هو التمليك والدفع إلى المكاتب تمليك فأما الإعتاق فليس بتمليك ، والثاني ما أشار إليه فقال : لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء ومعنى هذا الكلام أن الإعتاق يوجب الولاء للمعتق فكان حقه فيه باقيا ولم ينقطع من كل وجه فلا يتحقق الإخلاص فلا يكون عبادة والزكاة عبادة فلا تتأدى بما ليس بعبادة فأما الذي يدفع إلى المكاتب فينقطع عنه حق المؤدي من كل وجه ولا يرجع إليه بذلك نفع فيتحقق الإخلاص . سعيد بن جبير
وأما قوله تعالى : { والغارمين } قيل : الغارم الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده أو مثله أو أقل منه لكن ما وراءه ليس بنصاب .
وأما قوله تعالى : { وفي سبيل الله } عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا وقال [ ص: 46 ] المراد منه فقراء الغزاة ; لأن سبيل الله إذا أطلق في عرف الشرع يراد به ذلك ، وقال أبو يوسف : المراد منه الحاج المنقطع لما روي { محمد أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحاج } ، وقال : يجوز الشافعي وإن كان غنيا . دفع الزكاة إلى الغازي
وأما عندنا فلا يجوز إلا عند اعتبار حدوث الحاجة ، واحتج بما روي عن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أبي سعيد الخدري } ، وعن : لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأعطاها له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عطاء بن يسار } نفى حل الصدقة للأغنياء واستثنى الغازي منهم والاستثناء من النفي إثبات فيقتضي حل الصدقة للغازي الغني ولنا قول النبي : صلى الله عليه وسلم { : لا تحل الصدقة إلا لخمس العامل عليها ، ورجل اشتراها ، وغارم ، وغاز في سبيل الله ، وفقير تصدق عليه فأهداها إلى غني } وقوله صلى الله عليه وسلم { لا تحل الصدقة لغني } جعل الناس قسمين قسما يؤخذ منهم وقسما يصرف إليهم فلو جاز صرف الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز . : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم
وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث الحاجة وسماه غنيا على اعتبار ما كان قبل حدوث الحاجة وهو أن يكون غنيا ثم تحدث له الحاجة بأن كان له دار يسكنها ومتاع يمتهنه وثياب يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل له الصدقة ثم يعزم على الخروج في سفر غزو فيحتاج إلى آلات سفره وسلاح يستعمله في غزوه ومركب يغزو عليه وخادم يستعين بخدمته على ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقات ما يستعين به في حاجته التي تحدث له في سفره وهو في مقامه غني بما يملكه ; لأنه غير محتاج في حال إقامته فيحتاج في حال سفره فيحمل قوله { } على من كان غنيا في حال مقامه فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره لما أحدث السفر له من الحاجة إلا أنه يعطى حين يعطى وهو غني وكذا تسمية الغارم غنيا في الحديث على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وهذا ; لأن الغني اسم لمن يستغنى عما يملكه وإنما كان كذلك قبل حدوث الحاجة فأما بعده فلا . : لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله