الفصل السابع : الإخبار عن القرون السالفة
الوجه الرابع : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة ، والأمم البائدة ، والشرائع الداثرة ، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك ، فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه ، ويأتي به على نصه ، فيعترف العالم بذلك بصحته ، وصدقه ، وأن مثله لم ينله بتعليم .
وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ، ولا يكتب ، ولا اشتغل بمدارسة ، ولا مثافنة ، ولم يغب عنهم ، ولا جهل حاله أحد منهم .
وقد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا ، كقصص الأنبياء مع قومهم ، وخبر موسى ، والخضر ، ويوسف ، وإخوته ، وأصحاب الكهف ، ، [ ص: 285 ] وذي القرنين ولقمان وابنه ، وأشباه ذلك من الأنباء ، وبدء الخلق ، وما في التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، وصحف إبراهيم ، وموسى ، مما صدقه فيه العلماء بها ، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها ، بل أذعنوا لذلك ، فمن موفق آمن بما سبق له من خير ، ومن شقي معاند حاسد ، ومع هذا لم يحك عن واحد من النصارى ، واليهود على شدة عداوتهم له ، وحرصهم على تكذيبه ، وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم ، وتقريعهم بما انطوت عليه مصاحفهم ، وكثرة سؤالهم له - صلى الله عليه وسلم - ، وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم ، وأسرار علومهم ، ومستودعات سيرهم ، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ، ومضمنات كتبهم ، مثل سؤالهم عن الروح ، ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين وعيسى ، وحكم الرجم ، وما حرم إسرائيل على نفسه ، وما حرم عليهم من الأنعام ، ومن طيبات أحلت لهم فحرمت عليهم ببغيهم .
وقوله : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل [ الفتح : 29 ] .
وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن فأجابهم ، وعرفهم بما أوحي إليه ، من ذلك أنه أنكر ذلك أو كذبه ، بل أكثرهم صرح بصحة نبوته ، وصدق مقالته ، واعترف بعناده ، وحسدهم إياه ، كأهل نجران ، وابن صوريا ، وابني أخطب ، وغيرهم .
ومن باهت في ذلك بعض المباهتة ، وادعى أن فيما عندهم من ذلك لما حكاه مخالفة دعي إلى إقامة حجته ، وكشف دعوته ، فقيل له : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين - إلى قوله - : الظالمون [ آل عمران : 93 - 94 ] .
فقرع ، ووبخ ، ودعا إلى إحضار ممكن غير ممتنع ، فمن معترف بما جحده ، ومتواقح يلقي على فضيحته من كتابه يده .
ولم يؤثر أن واحدا منهم أظهر خلاف قوله من كتبه ، ولا أبدى صحيحا ، ولا سقيما من صحفه ، قال الله - تعالى - : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير [ المائدة : 15 ] الآيتين .