ثم العبادة هي اسم جامع لكل ما يرضى الإله السامع
( ثم ، وأخذ بها عليهم الميثاق ، وأرسل بها رسله وأنزل كتبه ، ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار ( هي اسم جامع لكل ما ) يحب و ( يرضى ) مبني للمعروف فاعله ( الإله السامع ) وهو الله عز وجل ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، فالظاهرة كالتلفظ بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة الملهوف ونصر المظلوم وتعليم الناس الخير والدعوة إلى الله عز وجل وغير ذلك ، والباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وخشية الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والرغبة والرهبة إليه والاستعانة به والحب والبغض في الله والموالاة والمعاداة فيه وغير ذلك . ثم اعلم أنها لا تقبل الأعمال الظاهرة ما لم يساعدها عمل القلب . ومناط العبادة هي غاية الحب مع غاية الذل ، ولا تنفع عبادة بواحد من هذين دون الآخر ، ولذا قال من قال من السلف : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، ومن العبادة ) التي خلق الله لها الخلق فهو مؤمن موحد . اهـ . عبده بالحب والخوف والرجاء
قلت : وبيان كلامهم هذا أن دعوى الحب لله بلا تذلل ولا خوف ولا رجاء ولا خشية ولا رهبة ولا خضوع دعوى كاذبة ، ولذا ترى من يدعي ذلك كثيرا ما يقع في معاصي الله عز وجل ويرتكبها ولا يبالي ويحتج في ذلك بالإرادة الكونية وأنه مطيع لها ، وهذا شأن المشركين الذين قالوا : ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ( الأنعام : 148 ) وقالوا : ( لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ) ( الزخرف : 20 ) وغير ذلك . وإمامهم في ذلك الاحتجاج هو إبليس إذ قال : ( رب بما أغويتني ) ( الأعراف : 16 ) . وإنما المحبة نفس وفاق العبد ربه : فيحب [ ص: 438 ] ما يحبه ويرضاه ، ويبغض ما يكرهه ويأباه . وإنما تتلقى معرفة محاب الله ومعاصيه من طريق الشرع ، وإنما تحصل بمتابعة الشارع . ولذا قال الحسن رحمه الله تعالى : ادعى قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ( آل عمران : 31 ) فمن ادعى محبة الله ولم يك متبعا رسوله فهو كاذب .
وقال رحمه الله تعالى : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تصدقوه حتى تعلموا متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وكذلك الرجاء وحده إذا استرسل فيه العبد تجرأ على معاصي الله وأمن مكر الله ، وقد قال الله تعالى : ( الشافعي فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) ( الأعراف : 99 ) . وكذلك الخوف وحده إذا استرسل فيه العبد ساء ظنه بربه وقنط من رحمته ويئس من روحه ، وقد قال تعالى : ( إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون ) ( يوسف : 87 ) وقال : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) ( الحجر : 56 ) خسران ، فالأمن من مكر الله كفران ، والقنوط من رحمة الله ضلال وطغيان ، وعبادة الله عز وجل بالحب والخوف والرجاء توحيد وإيمان . فالعبد المؤمن بين الخوف والرجاء كما قال تعالى : ( واليأس من روحه ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) ( الإسراء : 57 ) وقال تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) ( الزمر : 9 ) . وبين الرغبة والرهبة كما قال تعالى في آل زكرياء عليهم السلام : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) ( الأنبياء : 91 ) فتارة يمده الرجاء والرغبة فيكاد أن يطير شوقا إلى الله ، وطورا يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى ، فهو دائب في طلب مرضاة ربه مقبل عليه ، خائف من عقوباته ملتجئ منه إليه ، عائذ به منه ، راغب فيما لديه . وكذلك هو في صفات الله عز وجل لا ناف ولا مشبه ، وفي أفعال العباد لا جبري ولا قدري ، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ليس بذي النصب ولا التشيع ، وفي الوعد والوعيد ليس بخارجي ولا مرجئ . فدين الله بين الغلو والجفاء والتفريط والإفراط ، وخير الأمور [ ص: 439 ] الأوساط .
لا قوام لها إلا بهما وهما الإخلاص والصدق ، وحقيقة الإخلاص أن يكون قصد العبد وجه الله عز وجل والدار الآخرة ، كما قال تعالى : ( وللعبادة ركنان وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( الليل : 17 - 21 ) وقال تعالى : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ( الإسراء : 18 - 19 ) وقال تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) ( آل عمران : 145 ) وقال تعالى : ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ) ( الشورى : 20 ) وقال تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) ( هود : 16 ) وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ) ( البقرة : 264 - 265 ) .
وفي الصحيحين عن رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عمر بن الخطاب " . وفي صحيح [ ص: 440 ] مسلم عن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة " . وعن إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم أبي موسى رضي الله عنه قال : " متفق عليه . ولو ذهبنا نذكر أحاديث الإخلاص لطال الفصل . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
وأما الصدق فهو بذل العبد جهده في امتثال ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه ، والاستعداد للقاء الله ، وترك العجز وترك التكاسل عن طاعة الله ، وإمساك النفس بلجام التقوى عن محارم الله ، وطرد الشيطان عنه بالمداومة على ذكر الله ، والاستقامة على ذلك كله ما استطاع . قال الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) ( التوبة : 119 ) وقال تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ( الأحزاب : 23 ) الآية . وقال تبارك وتعالى : ( الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) - إلى قوله - ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) ( العنكبوت : 1 - 11 ) وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ) ( البقرة : 214 ) الآية . وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) - إلى قوله عز وجل - ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ) ( آل عمران : 142 - 146 ) [ ص: 441 ] إلى آخر الآيات . وقال تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) ( البقرة : 177 ) .
وفي الصحيح عن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة " . وفي الحديث الآخر : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " . وإذا اجتمعت النية الصالحة والعزيمة الصادقة في هذا العبد قام بعبادة الله عز وجل . ثم اعلم أنه لا يقبل منه ذلك إلا بمتابعته الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيعبد الله تعالى بوفق ما شرع وهو دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى من أحد سواه ، كما قال تعالى : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( آل عمران : 85 ) .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " وفي رواية من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد لمسلم : " " فهذه الثلاثة الأركان من [ ص: 442 ] عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد لا قوام لها إلا بها ، فالعزيمة الصادقة شرط في صدورها ، والنية الخالصة ، وموافقة السنة شرط في قبولها ، فلا تكون عبادة مقبولة إلا باجتماعها ، فإخلاص النية بدون صدق العزيمة هوس وتطويل أمل وتمن على الله وتسويف في العمل وتفريط فيه ، وصدق العزيمة بدون إخلاص فيه يكون شركا أكبر أو أصغر بحسب ما نقص من الإخلاص ، فإن كان الباعث على العمل من أصله هو إرادة غير الله فنفاق ، وإن كان دخل الرياء في تزيين العمل وكان الباعث عليه أولا إرادة الله والدار الآخرة كان شركا أصغر بحسبه ، حتى إذا غلب عليه التحق بالأكبر . وإخلاص النية مع صدق العزيمة إن لم يكن العمل على وفق السنة كان بدعة وحدثا في الدين وشرع ما لم يأذن الله به ، فيكون ردا على صاحبه ووبالا عليه والعياذ بالله ، فلا يصدر العمل من العبد إلا بصدق العزيمة ولا يقبل منه ذلك إلا بإخلاص النية وإتباع السنة ، ولذا قال شروط في العبادة في قوله تعالى : ( الفضيل بن عياض ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( الملك : 2 ) قال : أخلصه وأصوبه ; يعني خالصا من شوائب الشرك موافقا للسنة .