الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 53 ] قالوا : ثم وجدنا في هذا الكتاب ، ما هو أعظم من هذا برهانا ، مثل قوله في سورة الشورى :

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير .

وأما لغير أهل الكتاب ، فيقول :

قل ياأيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد . . . السورة كلها . والجواب :

أما قوله :

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم .

فهذه الآية مذكورة بعد قوله - تعالى - :

[ ص: 54 ] شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ( 13 ) وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ( 14 ) فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم .

فقد أخبرنا أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ، ولا تتفرقوا فيه كما قال - تعالى - في الآية الأخرى :

فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 30 ) منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( 31 ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون .

وقال - تعالى - :

ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( 51 ) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ( 52 ) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون .

[ ص: 55 ] ثم أخبر عن تفرق الذين أوتوا الكتاب  كتفرق اليهود والنصارى وتفرق فرق اليهود ، وفرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية .

ثم قال :

وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم - أولئك المفترقين - لفي شك منه مريب .

وهكذا توجد عامة اليهود والنصارى في شك من ذلك مريب .

وقال - تعالى - :

ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب .

وقال - تعالى - :

وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ( 157 ) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما .

[ ص: 56 ] ثم قال - تعالى - :

فلذلك فادع واستقم كما أمرت .

إلى الدين الذي شرعه لنا :

واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم .

وهذا يتناول أهواء أهل الكتاب ، كما يتناول أهواء المشركين ، وقد صرح بذلك في قوله - تعالى - :

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير .

وقال - تعالى - :

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين .

كما صرح بنهيه عن اتباع أهواء المشركين في قوله - تعالى - :

[ ص: 57 ] قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون .

وقوله - تعالى - :

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب .

حق ، فإن الله أمره وجميع الخلق أن يؤمنوا بجميع ما أنزل الله  وكذلك قوله - تعالى - :

وأمرت لأعدل بينكم .

فإن الله أمره أن يعدل بين جميع الخلق وقوله :

الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .

هذه براءة منه لمن يخاطب بذلك من المشركين وأهل الكتاب ، كقوله - تعالى - :

وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

[ ص: 58 ] ومثله قوله - تعالى - :

قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون .

وكذلك قوله :

قل ياأيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 3 ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 ) لكم دينكم ولي دين .

فإن هذه الكلمة كقوله :

لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص ، فقوله :

لكم دينكم ولي دين .

يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه ، وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه ، كما قال :

لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

[ ص: 59 ] ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في قل ياأيها الكافرون هي براءة من الشرك ، وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين ، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين ، وجعلوها منسوخة ، بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه ، وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم .

وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين ، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط  ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله - تعالى - :

قل ياأيها الكافرون ( 1 ) لا أعبد ما تعبدون ( 2 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 3 ) ولا أنا عابد ما عبدتم ( 4 ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( 5 ) لكم دينكم ولي دين .

( فظن هذا الملحد أن قوله : لكم دينكم ولي دين معناه [ ص: 60 ] أنه رضي بدين الكفار ، ثم قال : هذه الآية منسوخة ، فيكون قد رضي بدين الكفار ) ، وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ، ولا من أهل الكتاب   .

وقوله : لكم دينكم ولي دين لا يدل على رضاه بدينهم ، بل ولا على إقرارهم عليه ، بل يدل على براءته من دينهم ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن هذه السورة براءة من الشرك ) .

ونظير هذه الآية قوله - تعالى - :

وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .

وكذلك قوله - تعالى - :

فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .

وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله لكم دينكم ولي دين الآية ، أني لا آمر بالقتال ولا أنهى عنه ولا أتعرض له بنفي [ ص: 61 ] ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه .

وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال - تعالى - : عن الخليل .

وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون ( 26 ) إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

وقد قال - تعالى - :

وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه .

وهو ما طار عنه من خير وشر ، وقد قال - تعالى - :

ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى .

وقال - تعالى - :

لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت [ ص: 62 ] وقال - تعالى - :

إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ، بل قال - تعالى - لنبيه :

واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( 215 ) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون .

فإذا كان قد برأه الله من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة ؟ !

التالي السابق


الخدمات العلمية