[ ص: 22 ] وإذا كان جنس أهل الكتاب أكمل - في العلوم النافعة والأعمال الصالحة - ممن لا كتاب له ، فمعلوم أن محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من طائفتي أهل الكتاب : اليهود والنصارى وأعدل ، وقد جمع لهم محاسن ما في التوراة وما في الإنجيل . فليس عند أمة أهل الكتاب فضيلة علمية وعملية إلا وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل منهم فيها . فأما العلوم : فهم أحذق - في جميع العلوم - من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية ، ولا أخروية ، كعلم الطب - مثلا - والحساب ، ونحو ذلك ، هم أحذق فيها من الأمتين ، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين ، بل أحسن علما وبيانا لها من الأولين الذين كانت هي غاية علمهم ، وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد ، ولا قدر له عندهم ، لكن حصل له بما يعلمه من [ ص: 23 ] المسلمين من العقل ، والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم ، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانا لهذه العلوم من أولئك المتقدمين . وأما اليهود ، والنصارى وجد كلام المسلمين فيها أكمل ، وأتم . ومعلوم أن علم العلوم الإلهية والمعارف الربانية وما أخبرت به الأنبياء من الغيب كالعرش ، والملائكة ، والجن ، والجنة ، والنار ، وتفاصيل المعاد ، فكل من نظر في كلام المسلمين فيها وكلام علماء أهل الكتاب والملل بذلك أتم من علم غيرهم ، وأما العبادة ، والزهد ، والأخلاق ، والسياسة المنزلية ، والمدنية ، فالكلام فيها مبني على أصل ، وهو معرفة المقصود بها ، وما به يحصل المقصود . فنقول : للناس في مذاهب : منهم من يقول : المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس ، وتعديلها ؛ لتستعد بذلك للعلم ، وليست هي مقصودة في نفسها ، ويجعلونها من قسم الأخلاق ، وهذا قول متفلسفة مقصود العبادات اليونان ، وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين [ ص: 24 ] كالفارابي ، وغيرهما ، ومن سلك طريقهم من متكلم ، ومتصوف ، ومتفقه ، كما يوجد مثل ذلك في كتب وابن سينا ، أبي حامد ، المقتول ، والسهروردي وابن رشد الحفيد ، وابن عربي ، وابن سبعين ، لكن أبو حامد يختلف كلامه ؛ تارة يوافقهم ، وتارة يخالفهم . وهذا القدر فعله وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء ، وبين فلسفة ابن سينا المشائين - أرسطو ، وأمثاله ، ولهذا تكلموا في الآيات ، وخوارق العادات ، وجعلوا لها ثلاثة أسباب : القوى الفلكية ، والقوى النفسانية ، والطبيعية ؛ إذ كانت هذه هي المؤثرات في هذا العالم عندهم ، وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات ، والكرامات ، وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس . لكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير ، وهذا قصده الشر ، وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء ، كما قد بسط الكلام عليه في موضع آخر . فإنه مبني على إنكار الملائكة ، وإنكار الجن ، وعلى أن الله لا يعلم الجزئيات ، ولا يخلق بمشيئته وقدرته ، ولا يقدر على تغيير العالم ، ثم إن هؤلاء لا يقرون من المعجزات إلا بما جرى على هذا [ ص: 25 ] الأصل ، وأمكن أن يقال فيه هذا ، مثل : نزول المطر ، وتسخير السباع ، وإمراض الغير ، وقتله ، ونحو ذلك . وأما قلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، وإخراج الناقة من الهضبة ، وانشقاق القمر ، وأمثال ذلك فلا يقرون به ، وقد علم بطرق متعددة ما يكون من الخوارق بسبب أفعال الجن ، وبسبب أفعال الملائكة . وأحوال الجن معلومة عند عامة الأمم : مسلمهم ، وكافرهم ، لا يجحد ذلك إلا من هو من أجهل الناس ، وكذلك من فسرها بقوى النفس ، وهذا غير إخبار الله عنهم فيما أنزله من الكتب . وأما الملائكة فأمرهم أجل ، وهم رسل الله في تدبير العالم كما قال تعالى : فالمدبرات أمرا ، وقال : فالمقسمات أمرا وقد ذكر الله تعالى في كتبه من أخبارهم ، وأصنافهم [ ص: 26 ] ما يطول وصفه ، وآثارهم موجودة في العالم ، يعرف ذلك بالاعتبار كما قد بسط في موضعه ؛ إذ المقصود هنا ذكر مذاهب الناس في العبادات ، وهؤلاء غاية ما عندهم في العبادات ، والأخلاق ، والحكمة العملية ، أنهم رأوا النفس فيها شهوة ، وغضب من حيث القوة العملية ، ولها نظر من جهة القوة العلمية . فقالوا : كمال الشهوة في العفة ، وكمال الغضب في الحلم ، والشجاعة ، وكمال القوة النظرية في العلم . والتوسط في جميع ذلك بين الإفراط والتفريط هو العدل . وما ذكروه من العمل متعلق بالندب لم يثبتوا خاصية النفس التي هي محبة الله ، وتوحيده ، بل ولا عرفوا ذلك كما لم يكن عندهم من العلم بالله إلا قليل مع كثير من الباطل ، كما بسط الكلام عنهم في موضعه . ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له . فلا صلاح للنفس ، ولا كمال لها إلا في ذلك ، وبدون ذلك تكون فاسدة ، لا صلاح لها ، كما قد بسط الكلام على ذلك [ ص: 27 ] في موضع آخر ، ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل ، قال الله تعالى : ومحبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، وقال : ، وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ، وقال : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وقال تعالى : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ، وقال تعالى : [ ص: 28 ] ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، وقال لما ذكر قصص الأنبياء : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ، وقال تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، وقال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون [ ص: 29 ] وقد قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالغاية الحميدة التي بها يحصل آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده ، وهي حقيقة قول القائل : لا إله إلا الله ، ولهذا بعث الله جميع الرسل ، وأنزل جميع الكتب ، ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا ، كما قال تعالى : كمال بني وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة أي لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد ، والإيمان . وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ ص: 30 ] في موضعين من كتابه ، وهذا موسى حيث قال : أنا الله لا إله إلا أنا إلهك الذي أخرجتك من أرض أول الكلمات العشر التي أنزلها الله على مصر ، من التعبد ، لا يكون لك إله غيري ; لا تتخذ صورا ، ولا تمثالا ، ما في السماوات من فوق ، ومن في الأرض من أسفل ، وما في الماء من تحت الأرض ; لا تسجد لهن ; ولا تعبدهن إني أنا ربك العزيز . وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس ، فعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه ، هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى ، والمسيح ، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ، وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى : قال تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [ ص: 31 ] وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وبين أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله معبودها ومحبوبها ، الذي لا أحب إليها منه ، ولهذا ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب . فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب ، ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل ، فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده ، ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده ، وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده ، فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو ، وذلك يتضمن كمال الحب ، والذل ، والإجلال ، والإكرام ، والتوكل ، والعبادة . فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها ، ومن حيث هو ربها وخالقها . فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه ، ولم يعبد إلا الله وحده ، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه ، وأخشى عنده من كل ما سواه ، وأعظم عنده من كل ما سواه ، وأرجى عنده من كل ما سواه ، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ، ويخشاه مثل ما يخشى الله ، ويرجوه مثل ما يرجو الله ، ويدعوه مثل ما يدعوه ، فهو [ ص: 32 ] مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ، ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه ، وكان حكيما شجاعا . فما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس ، وتنجو من العذاب ، كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس ، ولا من الأخلاق ما هو دين حق ، ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى : كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده ، إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهذه الفضائل الأربع التي ذكرها المتفلسفة لا بد منها في كمال النفس ، وصلاحها ، وتزكيتها . والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به [ ص: 33 ] النجاة والسعادة . ولكن الأنبياء بينوا ذلك ، وقد قال سبحانه : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فهذه الأنواع الأربعة هي التي حرمها تحريما مطلقا ، لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق ، ولا في حال من الأحوال ، بخلاف الدم ، والميتة ، ولحم الخنزير ، وغير ذلك ، فإنه يحرم في حال ، ويباح في حال . وأما الأربعة فهي محرمة مطلقا . فالفواحش متعلقة بالشهوة . والبغي بغير الحق يتعلق بالغضب ، والشرك بالله فساد أصل العدل فإن الشرك ظلم عظيم ، والقول على الله بلا علم فساد في العلم ، فقد حرم سبحانه هذه الأربعة ، وهي فساد الشهوة ، والغضب ، وفساد العدل ، والعلم . وقوله : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا يتضمن تحريم أصل الظلم في حق الله ، وذلك يستلزم إيجاب ، فإن [ ص: 34 ] النفس لها القوتان : العلمية ، والعملية ، وعمل الإنسان عمل اختياري ، والعمل الاختياري إنما يكون بإرادة العبد . وكل إنسان له إرادة ، وعمل بإرادته فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : العدل في حق الله تعالى وهو عبادته وحده لا شريك له والإرادة لا بد لها من مراد ، وكل مراد فإما أن يراد لنفسه ، وإما أن يراد لغيره ، والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه . فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد ، وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة ، ولهذا قيل : العامة تقول : [ ص: 35 ] قيمة كل امرئ ما يحسنه . والعارفون يقولون : قيمة كل امرئ ما يطلب . وفي بعض الكتب المتقدمة : إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، وإنما أنظر إلى همته . وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس ، وإنما جعلوا كمالها العملي في تعديل الشهوة والغضب بالعفة ، والحلم ، وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب ، والشهوة : هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع ، والغضب : دفع ما يضر البدن . ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته . مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن ، وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس ، وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم . وقد بسطنا غلطهم في هذا الأصل من وجوه في غير هذا الموضع ، وبينا أن النفس لها كمال في العمل والإرادة ، كما أن لها [ ص: 36 ] كمالا في العلم ، وأن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا ، ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس ، وبينا غلط أصدق الأسماء الحارث ، وهمام الجهمية الذين قالوا : الإيمان هو مجرد العلم ، وأن الصواب قول السلف والأئمة : إن . أصله قول القلب ، وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته . وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به ، ولا تكمل إلا به ، وذلك هو إلهها ، فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله ، ولهذا قال الله تعالى : الإيمان قول وعمل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة والجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون ، لهم علم وعمل اختياري ، ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته ، وهو معبودهم ، ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله ، فلو كان في السماوات والأرض إله إلا الله لفسدتا . فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لا شريك له . [ ص: 37 ] وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك ، فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء ، فضلا عما تسعد به ، ومما يبين ذلك أن أرسطو معلمهم الأول هو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى بالحركة الفلكية ، فقالوا : الحركة الدورية حركة اختيارية نفسانية ، فقوامه بحركته الاختيارية ، وفساده بعدمها ، وقوام حركته بما يتحرك لأجله ، فإن الفاعل بالاختيار إنما قوامه بعلته الغائية التي يتحرك لأجلها ، وغايته التي يتحرك لأجلها ، هو العلة الأولى فإنه يتحرك للتشبه بها . فجعلوا قوام العالم كله بالعلة الأولى من حيث هو متشبه به ؛ لأن المتحرك باختياره لا بد له من مراد . ومعلوم أن الحركة الإرادية تطلب مرادا محبوبا لنفسها ، وتستلزم ذلك أعظم من استلزامها مشبها به ، فإن كل متحرك بإرادة لا بد له من مراد محبوب لنفسه ، فإن الإرادة لا بد لها من مراد ، والمراد يكون إما مرادا لنفسه ، وإما لغيره ، والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير بدلا أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه ، أو منتهى إلى مراد لنفسه ، وإلا لزم التسلسل في العلل الغائبة ، وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح [ ص: 38 ] العقل ، واتفاق العقلاء ، وبسط هذا له موضع آخر . وإذا كان الفاعل باختيار يستلزم مرادا لنفسه محبوبا ، فلا بد أن يكون لما يتحرك في السماوات بإرادته سواء كان هؤلاء الملائكة ، أو ما يسمونه هم نفسا من محبوب مراد لذاته ، يكون هو الإله المعبود المراد بتلك الحركات ، وكذلك نفس الإنسان حركتها بالإرادة من لوازم ذاتها ، فلا بد لها من محبوب مراد لذاته ، وهو الإله ، وهذا المحبوب المراد لذاته هو الله تعالى ، ويمتنع أن يكون غيره ، كما قد بسط هذا في موضع آخر ، وبين أنه يمتنع أن يكون موجودا بغيره ، بل هو واجب الوجود بنفسه ، فيمتنع أن يكون مرادا لغيره بل مراد لنفسه . وكما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران ، يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان ، فإن كون أحدهما قادرا يناقض كون الآخر قادرا ؛ لامتناع اجتماع القادرين على مقدور واحد ، وامتناع كون أحدهما قادرا على الفعل حين يكون الآخر قادرا عليه ، وامتناع ارتفاع قدرة أحدهما بقدرة الآخر مع التكافؤ . [ ص: 39 ] كذلك يمتنع أن يكون إلهان معبودان محبوبان لذاتهما ؛ لأن كون أحدهما هو المعبود لذاته يناقضه أن يكون غيره معبودا لذاته ، فإن ذلك يستلزم أن يكون بعض المحبة والعمل لهذا ، وبعض ذلك لهذا ، وذلك يناقض كون الحب والعمل كله لهذا ، فإن الشركة نقص في الحب ، فلا تكون حركة المتحرك بإرادته له ، فلا يكون أحدهما معبودا معمولا له إلا إذا لم يكن الآخر كذلك ، فإن العمل لهذا يناقض أن يكون له شريك فضلا عن أن يكون لغيره . وكل من أحب شيئين فإنما يحبهما لثالث غيرهما ، وإلا فيمتنع أن يكون كل منهما محبوبا لذاته ؛ إذ المحبوب لذاته هو الذي تريده النفس وتطلبه ، وتطمئن إليه ، بحيث لا يبقى لها مراد غيره ، وهذا يناقض أن يكون له شريك .
والقول الثاني : قول من يقول : إن الله عوض الناس بالتكليف بالعبادات ليثيبهم على ذلك بعد الموت ؛ فإن الإنعام بالثواب لا يحسن بدون التكليف ؛ لما فيه من الإجلال ، والتعظيم الذي لا يستحقه إلا مكلف ، كما يقول ذلك القدرية من المسلمين وغيرهم [ ص: 40 ] وهؤلاء قد يجعلون الواجبات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية ، وقد يقولون : إن الغاية المقصودة التي بها يحصل الثواب هو العمل ، والعلم ذريعة إليه ، حتى يقولوا مثل ذلك في معرفة الله تعالى ، يقولون : إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العقلية العملية .
، والقول الثالث : قول من يقول : بل الله أمر بذلك لا لحكمة مطلوبة ولا بسبب ، بل لمحض المشيئة ، وهذا قول الجبرية المقابلين للقدرية كالجهم ، وخلق كثير من [ ص: 41 ] المتكلمين والفقهاء ، والأشعري ، والصوفية ، وغيرهم .
القول الرابع : قول سلف الأمة وأئمتها ، وهو أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها ، وأن ولا يجوز أن يكون غيره محبوبا معبودا لذاته ، وأنه سبحانه يحب عباده الذين يحبونه ، ويرضى عنهم ، ويفرح بتوبة التائب ، ويبغض الكافرين ويمقتهم ، ويغضب عليهم ويذمهم ، وأن في ذلك من الحكم البالغة ، وكذلك من الأسباب ما يطول وصفه في هذا الخطاب كما قد بسط في موضعه ؛ إذ المقصود هنا التنبيه على أن المسلمين في هذا الله سبحانه محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو ، . وإذا عرف مذاهب الناس في مقاصد العبادات فهم أيضا مختلفون في صفاتها ، فمن الناس من يظن أن كل ما كان أشق على النفس وأشد إماتة لشهوتها فهو أفضل ، وهذا مذهب كثير من [ ص: 42 ] المشركين أكمل من غيرهم في العلوم النافعة والأعمال الصالحة الهند ، وغيرهم ، وكثير من أهل الكتاب اليهود ، والنصارى ، وكثير من مبتدعة المسلمين . والثاني : قول من يقول : إن أفضلها ما كان أدعى إلى تحصيل الواجبات العقلية
. والثالث : قول من يقول : فضل بعضها على بعض لا علة له ، بل يرجع إلى محض المشيئة .
والرابع وهو الصواب : أن فما كان صاحبه أكثر انتفاعا به ، وكان صاحبه أطوع لله به من غيره فهو أفضل ، كما جاء في الحديث : أفضلها ما كان لله أطوع ، وللعبد أنفع . خير العمل أنفعه وعلى كل قول فعبادات المسلمين أكمل من عبادات غيرهم ، أما عن الأول فأولئك يقولون : كلما كانت الأعمال أشق على النفس فهي أفضل . ثم هؤلاء قد يفضلون الجوع ، والسهر ، والصمت ، والخلوة ، ونحو ذلك ، كما يفعل ذلك من يفعله من المشركين الهند ، وغيرهم ، ومن النصارى ، ومبتدعة هذه الأمة ، ولكن يقال لهم : الجهاد أعظم مشقة من [ ص: 43 ] هذا كله ، فإنه بذل النفس ، وتعريضها للموت ، ففيه غاية الزهد المتضمن لترك الدنيا كلها ، وفيه جهاد النفس في الباطن ، وجهاد العدو في الظاهر ، ومعلوم أن اليهود ، والنصارى . فإن المسلمين أعظم جهادا من اليهود خالفوا موسى في الجهاد ، وعصوه ، والنصارى لا يجاهدون على دين ، وأما على قول من يجعل العبادات الشرعية لطفا في الواجبات العقلية ، فلا ريب أن عبادات المسلمين - كصلاتهم وصيامهم وحجهم - أدعى إلى العدل الذي هو جماع الواجبات العقلية ، من عبادات غيرهم التي ابتدعوها ، فإنها متضمنة للظلم المنافي للعدل . وأما على قول نفاة التعليل ، ورد ذلك إلى مشيئة الله : فيكون الأمر في ذلك راجعا إلى محض مشيئة الله ، وتعبده للخلق ، وحينئذ فمن تكون عباداته تابعة لأمر الله الذي جاء به الرسل يكون متعبدا بما أمر الله به بخلاف من تكون عباداته قد ابتدعها أكابرهم من غير أن يأتيهم بها رسول الله من عند الله . وأما على القول الرابع : فإن علم أن الله أمر به يتضمن طاعة الله . وهذا إنما يكون في عبادات أمر الله بها ، وهي عبادات المسلمين [ ص: 44 ] دون من ابتدع كثيرا من عباداتهم أكابرهم . وأما انتفاع العباد بها ، فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها ، ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب . فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم ، وعدلهم ، يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم . ثم صفات ، كالطهارة ، والاصطفاف ، والركوع ، والسجود ، واستقبال بيت عباداتهم فيها من الكمال ، والاعتدال إبراهيم ، الذي هو إمام الخلائق ، والإمساك فيها عن الكلام ، وما فيها من الخشوع ، وتلاوة القرآن ، واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف ، إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم . وأما . حتى إن حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذا لم يكن لهم شرع يحكم به الناس . وليس في الإنجيل حكم عام ، بل عامته ، وإنما فيه الأمر بالزهد ، ومكارم الأخلاق ، وهو مما يأمر به المسلمون أيضا . وقد ذكرنا في كون المسلمين معتدلين متوسطين بين اليهود [ ص: 45 ] والنصارى في التوحيد ، والنبوات ، والحلال ، والحرام وغير ذلك ، مما يبين أنهم أفضل من الأمتين ، مع أن دلائل هذا كثيرة جدا ، وإنما المقصود التنبيه على ذلك ، وحينئذ ففضل الأمة يستلزم فضل متبوعها .