فصل
قال الرافضي [1] : " الخامس : قوله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ سورة البقرة : 124 ] أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم . والكافر ظالم [2] ; لقوله : ( والكافرون هم الظالمون ) [ سورة البقرة : 254 ] . ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام ، إلى أن ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم " .
والجواب من وجوه : أحدها : أن يقال : لم يبق على صاحبه منه ذم . هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل من دين الرسل كلهم . الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح
كما قال تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ سورة الأنفال : 38 ] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث [ ص: 284 ] الصحيح [3] : " " ، وفي لفظ : " إن الإسلام يجب ما قبله " يهدم من كان قبله ، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله [4] .
الثاني : أنه ، بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه [5] ، وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر ، وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام .
ولهذا قال [6] أكثر العلماء : إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا [7] ممن آمن بالأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم ; فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى ، فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى .
كما قال تعالى : ( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ) [ سورة العنكبوت : 26 ] .
وقال تعالى : ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ) [ سورة إبراهيم : 13 - 14 ] .
وقال تعالى : ( قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا الآية [ سورة الأعراف : 88 - 89 ] .
[ ص: 285 ] وطرد هذا : من تاب من الذنب وغفر له [8] لم يقدح [9] في علو درجته كائنا من كان . والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول ، والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة ، كدعواهم إيمان آزر ، وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب ، وغير ذلك .
الثالث : أن يقال : قبل أن يبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أحد مؤمنا من قريش : لا رجل ولا صبي ولا امرأة ، ولا الثلاثة [10] ، ولا ، وإذا قيل عن الرجال : إنهم كانوا يعبدون الأصنام ، فالصبيان علي [11] كذلك : وغيره . علي
وإن قيل : كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ .
قيل : ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ ; فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون ، يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ . وعلي
يجري عليه حكم الكفر في الدنيا [ ص: 286 ] باتفاق المسلمين . والصبي المولود بين أبوين كافرين ؟ وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ [12] على قولين للعلماء ، بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين .
فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين . وأما إسلام علي ، فهل يكون مخرجا له من الكفر ؟ على قولين مشهورين . ومذهب أن الشافعي غير مخرج له من الكفر . إسلام الصبي
وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد ، فهو لم يعرف ; فلا يمكن الجزم بأن أو عليا الزبير [13] ونحوهما [14] لم يسجدوا لصنم ، كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك ، بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم . بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام ; وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان ، كما هو العادة في مثل ذلك .
الرابع : أن أسماء الذم : كالكفر ، والظلم ، والفسق التي في القرآن - لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك ، وأما من ( * صار مؤمنا بعد الكفر ، وعادلا بعد الظلم ، وبرا بعد الفجور - فهذا تتناوله أسماء المدح * ) [15] دون أسماء الذم باتفاق المسلمين .
فقوله عز وجل : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ سورة البقرة : 124 ] ، أي : [ ص: 287 ] ينال العادل دون الظالم ، فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله [16] العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء .
لقوله [17] تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم ) [ سورة المطففين : 22 ] ، وقوله : ( إن المتقين في جنات ونعيم ) [ سورة الطور : 17 ] [18] .
الخامس : أن من قال : إن المسلم بعد إيمانه كافر ، فهو كافر بإجماع المسلمين . فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا : إنهم كفار ; لأجل ما تقدم .
السادس : أنه قال لموسى : ( إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) [ سورة النمل : 10 - 11 .
السابع : أنه قال : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات ) الآية [ سورة الأحزاب : 72 - 73 ] .
فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول ، واستثنى من العذاب من تاب . ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب . وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة : هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة ؟ والكلام فيها مبسوط قد تقدم .