الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 368 ] والنصارى [1] وغيرهم ، فبينوا فساد ما سلكه [2] القائلون بقدم العالم من العقليات  ، وذكروا الحجج المنقولة عن أرسطو وغيره واحدة واحدة ، وبينوا فسادها ، ثم قالوا : نتلقى هذه المسألة [3] من السمع ، فالرسل قد أخبرت بما لا يقوم دليل [ عقلي ] [4] على نقيضه ، فوجب تصديقهم في هذا .  

                  ولم يمكن تأويل ذلك لوجوه : أحدها : أنه قد علم بالاضطرار مرادهم ، فليس في تأويل ذلك إلا التكذيب المحض للرسل .

                  والثاني : أن هذا متفق عليه بين أهل الملل ، سلفهم وخلفهم ، باطنا وظاهرا ، فيمتنع مع هذا أن تكون الرسل كانت مضمرة لخلاف ذلك ، كما يقوله [ من يقوله ] [5] من هؤلاء الباطنية .

                  الثالث : أنه ليس في العقل ما ينافي ذلك ، بل كل ما ينافيه من المعقولات فهو فاسد يعلم فساده بصريح العقل .

                  الرابع : أن في العقليات ما يصدق ذلك ، ثم كل منهم يسلك في ذلك ما تيسر له من العقليات .

                  الخامس : أنه معلوم بالفطرة [ والضرورة ] [6] أنه لا بد من محدث [ ص: 369 ] للمحدثات ، وفاعل للمصنوعات ، وأن كون [7] المفعول [ مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع في فطر العقول . وهذا مما يحتج به على هؤلاء ، كما قد بسط في موضعه ، فإنه إذا بين لهم فساد قول إخوانهم ، وتبين لهم أن الفاعل لا بد أن يقوم به من الأحوال مما يصير به فاعلا ، امتنع مع هذا أن يكون مفعوله المعين ] [8] مقارنا له أزلا [9] وأبدا ، فإن هذا إخراج له عن أن يكون مفعولا له .

                  السادس : أن يقال لهؤلاء وهؤلاء جميعا : أصل ما أنتم عليه الرجوع إلى الوجود ، والفلسفة معرفة الوجود على ما هو عليه ، والفلسفة الحقيقية هي العلوم الوجودية التي بها يعرف الوجود ، وأنتم لا تثبتون [ شيئا ] [10] في الغالب إلا بقياس : إما شمولي وإما تمثيلي ، فهل علمتم فاعلا يلزمه مفعوله أو يقارنه [11] في زمانه لا يحدث شيئا فشيئا ، سواء كان فاعلا بالإرادة أو بالطبع ؟ .

                  وهل علمتم فاعلا لم يزل [12] موجبا لمفعوله ، ولم يزل مفعوله معلولا له ؟ فهذا شيء لا تعقلونه أنتم ولا غيركم ، فكيف تثبتون بالمعقول [13] ما لا يعقل أصلا معينا ، فضلا عن أن يعقل مطلقا [14] ؟ والمطلق فرع [ ص: 370 ] المعين ، فما لا يكون موجودا معينا لا يعقل لا معينا ولا مطلقا ، ولكن يقدر تقديرا في الذهن كما تقدر الممتنعات .

                  يبين ذلك أن العلم بكون الشيء ممكنا في الخارج يكون العلم بوجوده ، أو بوجود ما ذلك الشيء أولى بالوجود منه ، كما يذكره الله في كتابه في تقرير إمكان المعاد كقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ سورة غافر : 57 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ سورة الروم : 27 ] ، وقوله : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ سورة القيامة : 37 ، 40 ] [15] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ سورة الأحقاف : 33 ] ، وقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه [ سورة يس : 78 ] إلى قوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ سورة يس : 81 ] ، وأمثال ذلك مما يدل على أن إعادة الخلق أولى بالإمكان من ابتدائه ، وخلق الصغير أولى بالإمكان من خلق العظيم . فأما ما لا [16] يعلم أنه ممكن إذا عرض على العقل ولم يعلم امتناعه ، فإمكانه ذهني ، بمعنى عدم العلم بالامتناع ، ليس إمكانه خارجيا ، بمعنى العلم بالإمكان في الخارج .

                  ولهذا ما تذكره طائفة من النظار كالآمدي وغيره : إذا أراد أن يقرر [ ص: 371 ] إمكان الشيء بأنه لو قدر وجوده لم يلزم منه محال ، مجرد دعوى . وغايته أن يقول : لا نعلم أنه يلزم منه محال ، وعدم [ العلم ] [17] ليس علما بالعدم [18] ، فهؤلاء إذا أرادوا أن يثبتوا إمكان كون المفعول لازما لفاعله ، لا بد أن يعلموا ثبوت ذلك في الخارج ، أو ثبوت ما ذاك أولى بالإمكان منه ، وكلاهما منتف . فلا يعلم قط فاعل إلا فاعلا يحدث فعله أو مفعوله ، [19] لا يقارنه مفعوله المعين ويلازمه ، بل هذا إلى [20] نفي كونه فاعلا ووصفه بالعجز عن نفي اللازم له ، أقرب منه إلى كونه فاعلا قادرا ، فقد جعلوا الله مثل السوء ، وهذا باطل .

                  والواجب في الأدلة [21] الإلهية أن يسلك بها هذا المسلك فيعلم أن كل كمال كان لمخلوق فالخالق أحق به ، فإن كمال المخلوق من كمال خالقه  ، وعلى اصطلاحهم كمال المعلول من كمال العلة ، ولأن الواجب أكمل من الممكن ، فهو أحق بكل كمال ممكن لا نقص فيه من كل ممكن ، ويعلم أن كل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه  ، فإن النقص يناقض الكمال ، فإذا كان أحق بثبوت الكمال كان أحق بنفي النقص ، وهذه القضية برهانية يقينية ، وهم يسلمونها .

                  وهم يقولون أيضا : إن الفعل صفة كمال  ، ويردون على من يقول من [ ص: 372 ] أهل الكلام إنه ليس صفة كمال ولا نقص ، وقد قال تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ سورة النحل : 17 ] .

                  وإذا [22] كان كذلك ، فمن المعقول أن الفاعل الذي يفعل بقدرته ومشيئته [23] أكمل ممن لا قدرة له ولا إرادة ، والفاعل [24] القادر المختار الذي يفعل شيئا بعد شيء ، أكمل ممن يكون مفعوله لازما له يقدر على إحداث شيء ولا تغييره من حال إلى حال ، إن كان يعقل فاعلا يلزمه مفعوله [25] المعين ، فإن الذي يقدر أن يفعل مفعولات متعددة ، ويقدر على تغييرها من حال إلى حال ، أكمل ممن ليس كذلك . فلماذا يصفون واجب الوجود بالفعل الناقص إن كان ذلك ممكنا ؟ كيف وما ذكروه ممتنع ، لا يعقل فاعل على الوجه الذي قالوه ؟ .

                  بل من قدر شيئا فاعلا للازمه الذي لا يفارقه بحال ، كان مخالفا لصريح المعقول عند الناس ، وقيل له : هذا صفة له [26] أو مشارك له ليس مفعولا له . ولو قيل لعامة العقلاء السليمي الفطرة : إن الله خلق السماوات والأرض ومع هذا فلم تزالا معه ، لقالوا : هذا ينافي خلقه لهما ، فلا يعقل خلقه لهما إلا إذا خلقهما بعد أن لم تكونا موجودتين .

                  وأما إذا قيل : لم تزالا موجودتين [27] كان القول مع ذلك بأنه خلقهما جميعا [ ص: 373 ] بين المتناقضين [28] في فطر الناس وعقولهم التي لم تغير [29] عن فطرتها .

                  ولهذا كان مجرد إخبار الرسل بأن الله خلق السماوات والأرض ونحو ذلك كافيا في الإخبار بحدوثهما  ، لم يحتاجوا مع ذلك أن يقولوا : خلقهما بعد [30] عدمهما ، ولكن أخبروا [31] بزمان خلقهما ، كما في قوله تعالى : خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ سورة يونس : 3 ] .

                  والإنسان لما كان يعلم أنه خلق بعد أن لم يكن ، ذكر بذلك ليستدل به على قدرة الخالق على تغيير [32] العادة . ولهذا ذكر تعالى ذلك في خلق يحيى بن زكريا [ عليه السلام ] [33] ، وفي النشأة [34] الثانية ، قال تعالى : يازكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ سورة مريم : 7 - 9 ] ، [ وقال تعالى ] : ( ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) ] [35] [ سورة مريم : 66 - 67 ] .

                  فذكر الإنسان بما يعلمه من أنه خلقه ولم يك شيئا ؛ ليستدل بذلك على قدرته على مثل ذلك ، وعلى ما هو أهون منه .

                  [ ص: 374 ] الوجه السابع : إن هؤلاء الذين قالوا بقدم العالم عن علة قديمة ، قالوا مع ذلك بأنه في نفسه ممكن ، ليس له وجود من نفسه ، وإنما وجوده من مبدعه ، فوصفوا الموجود الذي لم يزل موجودا ، الواجب بغيره ، بأنه ممكن الوجود . فخالفوا بذلك طريق سلفهم وما عليه عامة بني آدم من أن الممكن لا يكون إلا معدوما ، ولا يعقل ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد إلا ما كان معدوما . وهذا قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ، ولكن ابن سينا وأتباعه خالفوا هؤلاء . وقد تعقب ذلك عليهم ابن رشد وغيره ، وقالوا : إنه لا يعقل الممكن إلا ما أمكن وجوده وأمكن عدمه ، فجاز أن يكون موجودا وأن يكون معدوما ، أي مستمر العدم .

                  ولهذا قالوا : إن الممكن [36] لا بد له من محل ، كما يقال : يمكن أن تحمل المرأة [37] وأن تنبت الأرض وأن يتعلم الصبي ، فمحل الإمكان هو الرحم والأرض والقلب ، فيمكن أن يحدث في هذه المحال [38] ما هي قابلة له من الحرث والنسل والعلم .

                  أما الشيء الذي لم يزل ولا يزال - إما بنفسه وإما بغيره - فكيف يقال : يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد ؟ وإذا قيل : هو باعتبار ذاته يقبل الأمرين . [ قيل ] [39] : إن أردتم بذاته ما هو موجود في الخارج فذاك لا يقبل الأمرين ، فإن الوجود الواجب بغيره لا يقبل العدم ، إلا أن يريدوا أنه يقبل أن يعدم بعد وجوده ، وحينئذ فلا يكون واجبا بغيره دائما ، فمتى قبل العدم [ ص: 375 ] في المستقيل أو كان معدوما ، لم يكن أزليا أبديا [ قديما ] [40] واجبا بغيره دائما ، كما يقول هؤلاء في العالم .

                  فإن أريد بقبول الوجود والعدم في حال واحدة فهو ممتنع . وإن أريد في الحالين [41] : أي يقبل الوجود تارة والعدم أخرى [42] ، امتنع أن يكون أزليا أبديا لتعاقب الوجود والعدم عليه . وإن أريد أن ذاته التي تقبل الوجود والعدم شيء غير الوجود في الخارج ، فذاك ليس بذاته .

                  وإن قيل : يريد به أن ما يتصوره في النفس يمكن أن يصير موجودا في الخارج ومعدوما ، كما يتصوره الإنسان في نفسه من الأمور .

                  قيل : هذا أيضا يبين أن الإمكان مستلزم للعدم ؛ لأن ما ذكرتموه إنما هو في شيء يتصوره الفاعل في نفسه ، يمكن أن يجعله موجودا في الخارج ويمكن أن يبقى معدوما ، وهذا إنما يعقل فيما يعدم تارة ويوجد أخرى ، وأما ما لم يزل موجودا واجبا [43] بغيره ، فهذا لا يعقل فيه الإمكان أصلا ، وإذا قال قائل : ذاته تقبل الوجود والعدم ، كان متكلما بما لا يعقل .

                  وهذا الموضع قد تفطن له أذكياء النظار ، فمنهم من أنكره على ابن سينا وأتباعه ، كما أنكر ذلك ابن رشد . ومنهم من جعل هذا سؤالات واردة على الممكن ، كما يفعله الرازي وأتباعه ، ولم يجيبوا عنه [44] بجواب صحيح .

                  [ ص: 376 ] وسبب ذلك أنهم اتبعوا ابن سينا في تجويزه أن يكون الشيء ممكنا بنفسه واجبا بغيره دائما أزلا وأبدا . بل هذا باطل كما عليه جماهير الأمم من أهل الملل والفلاسفة وغيرهم ، وعليه نظر المسلمين ، [ وعليه أئمة الفلاسفة - أرسطو وأتباعه ] [45] - : لا يكون الممكن عندهم إلا ما يكون معدوما تارة وموجودا أخرى ، فالإمكان والعدم متلازمان .

                  وإذا كان ما سوى الرب تعالى ليس موجودا بنفسه ، بل كان ممكنا ، وجب أن يكون معدوما في بعض الأحوال ، ولا بد ليصح وصفه بالإمكان .

                  وهذا برهان مستقل في أن كل ما سوى الله محدث كائن بعد أن لم يكن ، وأنه [ سبحانه ] [46] خالق كل شيء بعد أن لم يكن شيئا ، فسبحان من تفرد [47] بالبقاء والقدم ، وألزم ما سواه بالحدوث عن العدم .

                  يوضح ذلك أنه إما أن يقال [48] : وجود كل شيء في الخارج عين ماهيته ، كما هو قول نظار أهل السنة الذين يقولون : إن المعدوم ليس بشيء في الخارج [ أصلا ] [49] ، ويقولون : إنه ليس في الخارج [50] للموجودات ماهيات غير ما هو الموجود في الخارج ، فيخالفون من يقول : المعدوم شيء ، من المعتزلة وغيرهم ، ومن قال : إن وجود كل شيء الثابت في الخارج مغاير لماهيته ولحقيقته الثابتة في الخارج ، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة ونحوهم .

                  [ ص: 377 ] وإما أن يقال : وجود الشيء في الخارج زائد على ماهيته .

                  فإن قيل بالأول ، لم يكن للعالم في الخارج ذات غير ما هو موجود [51] في الخارج ، حتى يقال : إنها تقبل الوجود والعدم .

                  وإن قيل بالثاني ، فإن [52] قدر أنه لم يزل موجودا ، لم يكن للذات حال تقبل الوجود والعدم ، بل لم تزل متصفة بالوجود .

                  فقول القائل : إن الممكن هو الذي يقبل الوجود والعدم ، مع قوله بأنه لم يزل موجودا ، جمع بين قولين متناقضين .

                  وإذا قيل : هو ممكن باعتبار ذاته ، كان قوله أيضا متناقضا ، سواء عنى بذاته الوجود [53] في الخارج أو شيئا آخر يقبل الوجود في الخارج . فإن تلك إذا لم تزل موجودة ، ووجودها واجب ، لم تكن قابلة للعدم أصلا ، ولم يكن عدمها ممكنا أصلا .

                  وقول القائل : هي باعتبار ذاتها غير موجودة ، مع قوله : [ إنها ] [54] لم تزل موجودة ، معناه أن الذات لم تزل موجودة واجبة بغيرها يمتنع عدمها ، هي باعتبار الذات تقبل الوجود والعدم ، ويمكن فيها هذا وهذا ، وبسط هذا بتمام الكلام على الممكن [55] ، كما قد بسطوه في موضعه .

                  يبين ذلك أن الممكن هو الفقير الذي لا يوجد بنفسه ، وإنما يوجده غيره ، فلا بد أن يكون هنا شيء يوصف بالفقر والإمكان [ وقبول [ ص: 378 ] العدم ] [56] ، ثم يوصف بالغنى والوجود ، فأما ما لم يزل موجودا غنيا ، فكيف يوصف بفقر وإمكان ؟ فإنه إن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على الموجود الغني ، كان ذلك ممتنعا فيه - كما تقدم - إذا كان لا يقبل العدم ألبتة ، وإن حكم بالفقر والإمكان وقبول العدم على ما في الذهن ، بمعنى [57] أنه يفتقر وجوده في الخارج إلى فاعل ، فهذا يؤيد ما قلناه من أنه لا بد أن يكون معدوما ثم يوجد .

                  وإن قيل : بل فاعله يتصوره في نفسه مع دوام فعله له ، والممكن هو ما في النفس .

                  قيل : ما في النفس الواجب واجب به لا يقبل العدم ، وما في الخارج واجب به لا يقبل العدم ، فأين القابل للوجود والعدم ؟ .

                  وإن قيل : ما تصور في النفس يقبل الوجود والعدم في الخارج .

                  قيل : هذا ممتنع مع وجوب وجوده [ دائما [58] في الخارج ، بل هذا معقول فيما يعدم تارة ويوجد أخرى ، فإذا كان كل ما سوى الله ممكنا فقيرا ، وجب أن يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى [59] .

                  وهذا الدليل مستقر في فطر الناس ، فكل من يتصور شيئا من الأشياء محتاجا إلى الله مفتقرا إليه ، ليس موجودا بنفسه بل وجوده بالله  ، تصور أنه مخلوق كائن بعد أن لم يكن . فأما إذا قيل : هو فقير مصنوع محتاج ، وأنه دائما معه لم يحدث عن عدم ، لم يعقل هذا ولم يتصور إلا كما [ ص: 379 ] تتصور الممتنعات ، بأن يقدر في الذهن تقديرا لا يتصور تحققه في الخارج ، فإن تحققها [60] في الخارج ممتنع .

                  وعلى هذا فإذا قيل : المحوج إلى المؤثر هو الإمكان أو هو الحدوث ، لم يكن بين القولين منافاة ، فإن كل ممكن حادث ، وكل حادث ممكن ، فهما متلازمان . ولهذا جمع بين القولين من قال : إن [61] المحوج إلى المؤثر هو الإمكان والحدوث جميعا . فالأقوال الثلاثة صحيحة في نفس الأمر ، وإنما وقع النزاع لما ظن من ظن أنه يكون الشيء ممكنا مع كونه غير حادث .

                  وهذا الذي قرر في امتناع كون العالم قديما ، وامتناع كون فاعله علة قديمة أزلية صحيح ، سواء قيل : إنه مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها [62] ، أو قيل : ليس بمريد ، وسواء قيل : إنه علة للفلك مع حركته ، أو للفلك بدون حركته .

                  وهكذا القول في كل ما يقدر [63] قديما معه ، فإنه لا بد أن يكون مقارنا لشيء من الحوادث ، أو ممكنا أن يقارنه شيء من الحوادث . وعلى التقديرين يمتنع أن يكون قديما مع الله [ تعالى ] [64] ؛ لأن القديم لا يكون إلا عن موجب تام مستلزم لموجبه ، وثبوت هذا في الأزل يقتضي أنه لا يحدث عنه شيء ، والحوادث لا تحدث إلا عنه ، فلا يكون موجبا أزليا [ ص: 380 ] إلا إذا حدث عنه شيء ، ولكن فاعل العالم يمتنع أن لا يحدث عنه شيء ، فيمتنع أن يكون موجبا بالذات في الأزل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية