الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 393 ] فصل .

                  قال الرافضي [1] : " العاشر : ما رواه الجمهور من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إني تارك فيكم ما إن [2] تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي  ، ولن يفترقا [3] حتى يرد علي الحوض ، وقال : أهل بيتي [4] فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته [5] ، وعلي سيدهم ، [6] ، فيكون واجب الطاعة على الكل ، فيكون هو الإمام " [7] .

                  والجواب من وجوه :

                  أحدها : أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة ، فقال : " أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول [ ص: 394 ] ربي فأجيب ربي ، وإني تارك فيكم ثقلين : أولهما : كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ، ورغب فيه ، ثم قال : " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " [8] .

                  .

                  وهذا اللفظ يدل على أن الذي أمرنا بالتمسك به وجعل المتمسك به [9] لا يضل هو كتاب الله .

                  وهكذا جاء في غير هذا الحديث ، كما في صحيح مسلم عن جابر في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة ، وقال : " قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن [10] اعتصمتم به : كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها [11] إلى الناس : " اللهم اشهد " ثلاث مرات [12] .

                  وأما قوله : " وعترتي ( أهل بيتي ) [13] وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " فهذا رواه الترمذي [14] ، وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعفه [ ص: 395 ] وضعفه غير واحد من أهل العلم ، وقالوا : لا يصح ، وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة ، قالوا : ونحن نقول بذلك ، كما ذكر القاضي أبو يعلى وغيره .

                  ولكن أهل البيت لم يتفقوا - ولله الحمد - على شيء من خصائص مذهب الرافضة ، بل هم المبرءون المنزهون عن التدنس بشيء منه .

                  وأما قوله : " مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح " فهذا لا يعرف له إسناد لا [15] صحيح ، ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها ، فإن كان قد رواه مثل من يروي أمثاله من حطاب الليل الذين يروون الموضوعات فهذا ما يزيده وهنا .

                  الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته : إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وهو الصادق المصدوق فيدل على أن إجماع العترة حجة ، وهذا قول طائفة من أصحابنا ، وذكره القاضي في المعتمد لكن العترة هم بنو هاشم كلهم : ولد العباس ، وولد علي ، وولد الحارث بن عبد المطلب ، وسائر بني أبي طالب ، وغيرهم ، وعلي وحده ليس هو العترة ، وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                  يبين ذلك أن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ، ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في [ ص: 396 ] كل ما يفتي به ، ولا عرف أن أحدا من أئمة السلف - لا من بني هاشم ولا غيرهم - قال : إنه يجب اتباع علي في كل ما يقوله .

                  الوجه الثالث : أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته ، بل أئمة العترة كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر * في الإمامة والأفضلية ، وكذلك سائر بني هاشم من العباسيين ، والجعفريين ، وأكثر العلويين ، وهم مقرون [16] بإمامة أبي بكر وعمر * [17] ، وفيهم من أصحاب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية .

                  والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين ، وتابعيهم من ولد الحسين بن علي ، وولد الحسن ، وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر ، وكانوا يفضلونهما على علي ، والنقول عنهم ثابتة متواترة .

                  وقد صنف الحافظ أبو الحسن الدارقطني كتاب " ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة [18] " ، وذكر فيه من ذلك قطعة ، وكذلك كل من صنف من أهل الحديث في السنة مثل كتاب " السنة " لعبد الله بن أحمد ، و " السنة " للخلال [19] ، و " السنة " لابن بطة ، و " السنة " للآجري ، واللالكائي ، والبيهقي ، وابن ذر الهروي ، والطلمنكي ، وابن حفص بن شاهين ، وأضعاف هؤلاء الكتب التي يحتج هذا بالعزو إليها مثل كتاب " فضائل الصحابة " للإمام أحمد ، ولأبي نعيم [20] ، وتفسير الثعلبي ، وفيها من [ ص: 397 ] ذكر فضائل الثلاثة ما هو من أعظم الحجج عليه ، فإن كان هذا القدر حجة فهو حجة له وعليه ، وإلا فلا يحتج به .

                  الوجه الرابع : أن هذا معارض بما هو أقوى منه ، وهو أن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع ، والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة ، وأفضل الأمة أبو بكر  ، كما تقدم ذكره ويأتي .

                  وإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع قول أفضلها مطلقا ، وإن لم يكن هو الإمام ثبت أن أبا بكر هو الإمام ، وإن لم يجب أن يكون الأمر كذلك بطل ما ذكروه في إمامة علي ، فنسبة أبي بكر إلى جميع الأمة بعد نبيها كنسبة علي إلى العترة بعد نبيها على قول هذا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية