الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما نزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود . قالت الوعيدية : الله [1] - تعالى - إنما [ ص: 288 ] وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله ، والكراهة [2] عمل القلب . وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب  [3] وعلمه [4] ، هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه .

                  وعند فقهاء المرجئة : هو قول اللسان مع تصديق القلب   . وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح ، فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه [5] مع كراهة ما نزل [6] الله ، وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم . والآية تتناوله ، وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم .

                  قالوا : وأما قولكم : المتقون الذين اتقوا الشرك . فهذا خلاف القرآن ; فإن الله - تعالى - قال : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون [ سورة المرسلات : 41 - 42 ] ، إن المتقين في جنات ونهر [ سورة القمر : 54 ] .

                  وقال : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ سورة البقرة : 1 - 4 ] .

                  وقالت مريم : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ سورة مريم : 18 ] [ ص: 289 ] ولم ترد به الشرك [7] ، بل أرادت التقي الذي يتقى فلا يقدم [8] على الفجور .

                  وقال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق : 1 - 2 ] .

                  وقال تعالى : إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم [ سورة الأنفال : 29 ] .

                  وقال تعالى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ سورة يوسف : 90 ] .

                  وقال تعالى : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ سورة آل عمران : 186 ] .

                  وقال - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله : والله ولي المتقين [ سورة الجاثية : 18 - 19 ] .

                  وقال : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم [ سورة الأحزاب : 70 - 71 ] فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك .

                  وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته [ سورة آل عمران : 102 ] . [ ص: 290 ] أفيقول مسلم : إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا ، وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته ؟ .

                  وقد قال السلف : ابن مسعود [9] وغيره : كالحسن ، وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل : " حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى " [10] . وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال : هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده ، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم [11] .

                  وفي الآية [12] أخرى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] وهذه مفسرة لتلك . ومن قال من السلف هي ناسخة لها ، فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته : ما يعجز البشر عنه ; فإن الله لم يأمر بهذا قط . ومن قال إن الله أمر به ، فقد غلط . ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم ، أو ظاهر ، أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا [13] ، ومنهم من يسمي الاستثناء نسخا إذا تأخر نزوله .

                  [ ص: 291 ] وقد قال - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ سورة الحج : 52 ] ، فهذا رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله ، لكن غايته أن يظن أن الله أنزله ، وقد أخبر أنه نسخه .

                  وقد قال - تعالى - : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ سورة الأعراف : 201 - 202 ] ، فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي ، وهو لا يتذكر ولا يبصر ، كيف يكون من المتقين ؟ .

                  وقد قال - تعالى - في آية الطلاق : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق : 2 - 3 ] . وفي حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم " [14] وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له : لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا .

                  ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك . ومن أواخر [15] [ ص: 292 ] ما نزل من القرآن . وقيل : إنها آخر آية نزلت قوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ سورة البقرة : 281 ] ، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك ؟ ، وإن فعل كل ما حرم الله عليه ، وترك كل ما أمر الله به ؟ وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله .

                  وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون [16] للفرائض ، المجتنبون [17] للمحارم ، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف ، والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك [18] .

                  قالت المرجئة : أما احتجاجكم بقوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ سورة السجدة : 18 ] فلا يصح ، لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب ; فإنه قال : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ سورة السجدة : 20 ] فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة ، وهذا وصف المكذب لا العاصي .

                  وقالوا مع الجمهور للخوارج : لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله . والله - تعالى - قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر [ ص: 293 ] بقطع السارق [19] ، ومضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجلد الشارب   . فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل ، فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة   .

                  وقالوا لهم وللمعتزلة : قد [20] قال الله - تعالى - : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [ سورة الحجرات : 9 - 10 ] قالوا : فقد سماهم مؤمنين مع الاقتتال والبغي ، وقد أمر الله - تعالى - بالإصلاح بينهم ، وجعلهم إخوة المصلح [21] بينهم الذي لم يقاتل . فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية