ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما نزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود . قالت الوعيدية : الله [1] - تعالى - إنما [ ص: 288 ] وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله ، والكراهة [2] عمل القلب . الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعند [3] وعلمه [4] ، هذا قول جهم والصالحي في المشهور عنه وأكثر أصحابه . والأشعري
المرجئة : هو قول اللسان مع تصديق القلب . وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح ، فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه وعند فقهاء [5] مع كراهة ما نزل [6] الله ، وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم . والآية تتناوله ، وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم .
قالوا : وأما قولكم : المتقون الذين اتقوا الشرك . فهذا خلاف القرآن ; فإن الله - تعالى - قال : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون [ سورة المرسلات : 41 - 42 ] ، إن المتقين في جنات ونهر [ سورة القمر : 54 ] .
وقال : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ سورة البقرة : 1 - 4 ] .
وقالت مريم : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ سورة مريم : 18 ] [ ص: 289 ] ولم ترد به الشرك [7] ، بل أرادت التقي الذي يتقى فلا يقدم [8] على الفجور .
وقال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق : 1 - 2 ] .
وقال تعالى : إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم [ سورة الأنفال : 29 ] .
وقال تعالى : إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [ سورة يوسف : 90 ] .
وقال تعالى : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ سورة آل عمران : 186 ] .
وقال - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله : والله ولي المتقين [ سورة الجاثية : 18 - 19 ] .
وقال : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم [ سورة الأحزاب : 70 - 71 ] فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك .
وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته [ سورة آل عمران : 102 ] . [ ص: 290 ] أفيقول مسلم : إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا ، وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته ؟ .
وقد قال السلف : ابن مسعود [9] وغيره : ، كالحسن وعكرمة ، وقتادة ، ومقاتل : " حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى " [10] . وبعضهم يرويه عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي تفسير ابن مسعود الوالبي عن قال : هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده ، وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم ابن عباس [11] .
وفي الآية [12] أخرى : فاتقوا الله ما استطعتم [ سورة التغابن : 16 ] وهذه مفسرة لتلك . ومن قال من السلف هي ناسخة لها ، فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته : ما يعجز البشر عنه ; فإن الله لم يأمر بهذا قط . ومن قال إن الله أمر به ، فقد غلط . ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم ، أو ظاهر ، أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا [13] ، ومنهم من يسمي الاستثناء نسخا إذا تأخر نزوله .
[ ص: 291 ] وقد قال - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ سورة الحج : 52 ] ، فهذا رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله ، لكن غايته أن يظن أن الله أنزله ، وقد أخبر أنه نسخه .
وقد قال - تعالى - : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ سورة الأعراف : 201 - 202 ] ، فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي ، وهو لا يتذكر ولا يبصر ، كيف يكون من المتقين ؟ .
وقد قال - تعالى - في آية الطلاق : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق : 2 - 3 ] . وفي حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم أبا ذر " يا [14] وكان وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له : لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا . ابن عباس
ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك . ومن أواخر [15] [ ص: 292 ] ما نزل من القرآن . وقيل : إنها آخر آية نزلت قوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ سورة البقرة : 281 ] ، فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك ؟ ، وإن فعل كل ما حرم الله عليه ، وترك كل ما أمر الله به ؟ وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان ينسبه إلى الإرجاء قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله . سعيد بن جبير
وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون [16] للفرائض ، المجتنبون [17] للمحارم ، هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف ، والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك [18] .
قالت المرجئة : أما احتجاجكم بقوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ سورة السجدة : 18 ] فلا يصح ، لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب ; فإنه قال : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ سورة السجدة : 20 ] فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة ، وهذا وصف المكذب لا العاصي .
وقالوا مع الجمهور للخوارج : لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله . والله - تعالى - قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر [ ص: 293 ] بقطع السارق [19] ، ومضت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فهذه النصوص صريحة بأن بجلد الشارب . الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل ، فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة
وقالوا لهم وللمعتزلة : قد [20] قال الله - تعالى - : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [ سورة الحجرات : 9 - 10 ] قالوا : فقد سماهم مؤمنين مع الاقتتال والبغي ، وقد أمر الله - تعالى - بالإصلاح بينهم ، وجعلهم إخوة المصلح [21] بينهم الذي لم يقاتل . فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان .