[ ص: 354 ] الوجه الثالث أن يقال : إن كان [1] الكلابية والأشعرية إنما قالوا هذا لموافقتهم المعتزلة في الأصل الذي اضطرهم إلى ذلك ، فإنهم وافقوهم كما تقدم على صحة دليل حدوث الأجسام ، فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث . ثم قالوا : وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها .
فإذا قيل : الجسم لم يخل عن الحركة والسكون ، فإن الجسم إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا .
قالوا : والسكون الأزلي يمتنع زواله ; لأنه موجود أزلي [2] وكل موجود أزلي يمتنع زواله ، وكل جسم يجوز عليه الحركة ، فإذا جاز عليه الحركة وهو [3] أزلي وجب [4] أن تكون حركته أزلية ، لامتناع زوال السكون الأزلي [5] ولو جاز أن تكون حركته أزلية [6] لزم حوادث لا أول لها ، وذلك ممتنع ، فلزم من ذلك أن لأنها الباري لا تقوم به الحوادث ; [7] لو قامت به لم يخل منها ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها .
وقد علموا بالأدلة اليقينية أن الكلام يقوم بالمتكلم ، كما يقوم العلم [ ص: 355 ] بالعالم والقدرة بالقادر ، والحركة بالمتحرك ، وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له ، بل لذلك المحل الذي خلقه فيه . فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ، ولم يعد [8] على غيره ، واشتق لذلك المحل منه اسم [9] ولم يشتق لغيره .
فلو [10] كان الكلام المخلوق في غيره كلاما له ، لزم أربعة أمور باطلة : [ ثبوت حكم الصفة والاسم المشتق منها لغير الله ، وانتفاء الحكم والاسم عن الله لازمان عقليان ولازمان سمعيان يلزمان ] [11] بكون [12] الكلام [13] صفة لذلك المحل لا لله ، فيكون هو المنادي بما يقوم به [14] فتكون الشجرة التي خلق فيها [15] نداء موسى هي القائلة " إنني [16] أنا الله ، لا يكون الله هو المنادي بذلك ، ويلزم أن تسمى هي متكلمة منادية لموسى ، ويلزم أن لا يكون الله متكلما ولا مناديا ولا مناجيا [17] .
[ ص: 356 ] وهذا خلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين ، [ وهذا قد بسط في غير هذا الموضع ] [18] .
وقالوا أيضا : لو لم يكن متكلما في الأزل لزم اتصافه بنقيض الكلام من السكوت أو الخرس [19] وقالوا أيضا [20] : لو كان كلامه مخلوقا لكان إن خلقه في محل كان كلاما لذلك المحل ، وإن خلقه قائما بنفسه لزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها ، وإن خلقه في نفسه لزم أن تكون نفسه محلا للمخلوقات .
( 4 وهذه اللوازم الثلاثة باطلة تبطل كونه مخلوقا 4 ) [21] ، كما هو مبسوط [22] في غير هذا الموضع .
فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم [23] ، لزم من هذين الأصلين أن يكون الكلام قديما .
قالوا : وقدم الأصوات ممتنع ; لأن الصوت لا يبقى زمانين ، فتعين أن يكون القديم معنى ليس بحرف ولا صوت ، وإذا كان كذلك كان معنى واحدا ; لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ، ويمتنع وجود معان لا نهاية لها .
[ ص: 357 ] فهذا أصل قولهم ، فهم يقولون : نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم [24] بالرب ما هو مراد له مقدور ، وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ، فلزم ما ذكرتموه من مناقضتنا [25] ، فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نكن متناقضين ، وإن تعذر ذلك لزم خطؤنا [26] في إحدى المسألتين ، ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه ، بل قد نكون مخطئين [27] فيما وافقناكم فيه [28] من كون الرب لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به ، مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور [29] أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية والشيعة وغيرهم ، بل لعله قول أكثر أهل الطوائف .
وإن لزم خطؤنا [30] في إحدى المسألتين لا بعينها لا يلزم صوابكم أنتم [31] ، بل نحن إذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين ، كانت موافقتنا لمن يقول : إن الرب يتكلم بكلام يقوم به [32] بمشيئته وقدرته خيرا من موافقتنا لمن يقول : إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره ، فإن فساد [ ص: 358 ] هذا القول في الشرع والعقل [33] أظهر من فساد القول بكونه يتكلم بكلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته .
ثم القائلون بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به وهم جمهور المسلمين اختلفوا على قولين : منهم قال : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته [34] بكلام [35] بعد أن لم يكن الكلام موجودا فيه ، كما تقوله الكرامية وموافقوهم .
ومنهم من يقول [36] : لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ، كما تقوله أئمة أهل [37] السنة والحديث ، كعبد الله بن المبارك [38] ، ، وغيرهما من أئمة أهل السنة وأحمد بن حنبل [39] .
والكلابية [40] يقولون : لو اضطررنا إلى موافقة من يقول : كلامه مخلوق ومن يقول : كلامه قائم بذاته ، وجنس الكلام حادث في ذاته [41] بعد أن لم يكن ، كان كلام [42] هؤلاء أخفى فسادا من قول المعتزلة ، وقول
[ ص: 359 ] المعتزلة أظهر فسادا ، فإن الحجة النافية لهذا وهو أن القابل للشيء [43] لا يخلو منه ومن [44] ضده حجة ضعيفة اعترف بضعفها حذاق الطوائف واعترف منصفوهم [45] أنه لا يقوم لهم دليل عقلي - بل ولا سمعي - على نفي قيام [46] الحوادث به ، إلا ما ينفي الصفات مطلقا ، وذلك في غاية الفساد ، فكيف يمكن أن يصير [47] إلى القول الآخر ، قول السلف وأهل الحديث ؟ .
وبالجملة فكون ، كما هو قول أهل الحديث مبني على مقدمتين : على أنه تقوم به الرب لم يزل متكلما إذا شاء [48] الأمور الاختيارية وأن كلامه لا نهاية له .
قال الله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [ سورة الكهف : 109 ] وقال : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم [ سورة لقمان : 27 ] .
وقد قال : غير واحد من العلماء : إن مثل هذا الكلام [49] يراد به الدلالة [ ص: 360 ] على أن كلام [50] الله لا ينقضي ولا ينفد ، بل لا نهاية له [51] ومن قال : إنه يتكلم [52] بمشيئته وقدرته بكلام يقوم بذاته ، يقولون : إنه لا نهاية له [53] في المستقبل .
وأما في الماضي فلهم قولان : منهم من يقول : لها بداية في الماضي [54] ، وأئمتهم يقولون : لا بداية لها في الماضي [55] [ كما لا نهاية لها في المستقبل ] [56] وهذا يستلزم وجود ما لا نهاية له أزلا وأبدا من الكلمات .
والكلام صفة كمال [57] ، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، بل لا يعقل متكلم إلا كذلك . ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم . وأما الأمور المنفصلة عن الذات فلا يتصف بها ألبتة ، فضلا عن أن تكون صفة كمال أو نقص .
قالوا : ولم نعرف عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين من أنكر هذا الأصل ، ولا قال : إنه يمتنع وجود كلمات لا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ، ولا قالوا : ما يستلزم امتناع هذا .
[ ص: 361 ] وإنما قال ذلك أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة الذين أحدثوا في الإسلام نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة ، وقالوا : إنه [58] لا يتكلم ، ثم . قالوا : إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله
قالوا : وإنما [59] قلنا ذلك ; لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام ، وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها ، وأن ما لا ينفك [60] عن الحوادث فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها . فلو قلنا : إنه تقوم به الصفات والكلام ، لزم قيام الحوادث به ; لأن هذه أعراض [61] حادثة .
فقال لهم أهل السنة : أحدثتم بدعا تزعمون [62] أنكم تنصرون بها الإسلام ، فلا للإسلام نصرتم [63] ولا لعدوه كسرتم ، بل سلطتم عليكم أهل الشرع والعقل ، فالعالمون [64] بنصوص المرسلين يعلمون أنكم خالفتموها ، وأنكم أهل بدعة وضلالة ، والعالمون بالمعاني المعقولة يعلمون أنكم قلتم ما يخالف المعقول ، وأنكم أهل خطأ وجهالة .
[ ص: 362 ] والفلاسفة الذين زعمتم أنكم تحتجون عليهم [65] بهذه الطريق تسلطوا [66] عليكم بها ، ورأوا أنكم خالفتم [67] صريح العقل . والفلاسفة أجهل منكم بالشرع [ والعقل في الإلهيات ، لكن لما ظنوا أن ما جئتم به هو الشرع ، وقد رأوه يخالف العقل - صاروا أبعد عن الشرع والعقل منكم ] [68] لكن [69] عارضوكم بأدلة عقلية - بل وشرعية - ظهر [70] بها عجزكم في هذا الباب عن بيان حقيقة الصواب .
وكان ذلك مما زادهم ضلالا في أنفسهم وتسلطا عليكم ، ولو سلكتم معهم طريق [71] العارفين بحقيقة المعقول والمنقول ، لكان ذلك أنصر لكم وأتبع لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - [72] ولكنكم كنتم بمنزلة من جاهد الكفار بنوع من الكذب والعدوان ، وأوهمهم [73] أن هذا يدخل في حقيقة الإيمان ، فصار ما عرفه أولئك من كذب هؤلاء وعدوانهم مما يوجب القدح فيما ادعوه من إيمانهم ، ولما رأى أولئك في الملك [74] والرياسة والمال ، من جنس هذه المخادعة والمحال - سلكوا [ ص: 363 ] طريقا أبلغ في المخادعة [75] والمحال من طرق أولئك المبتدعين الضالين [76] ، فسلطوا عليهم عقوبة لهم على خروجهم عن الدين .
قال الله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ آل عمران : 165 ] وقال : [77] : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم [ آل عمران : 155 ] وقال : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ] [78] [ آل عمران : 166 ] .
فما جاء به الرسول حق محض يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ، والأقوال المخالفة لذلك وإن كان كثير من أصحابها [79] مجتهدين مغفورا لهم خطؤهم ، فلا يملكون [80] نصرها بالأدلة العلمية ، ولا الجواب عما يقدح فيها بالأجوبة العلمية ، فإن الأدلة العقلية [81] الصحيحة لا تدل إلا على القول الحق ، والأجوبة الصحيحة المفسدة [82] لحجة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة ، فإن ما هو باطل [83] لا يقوم عليه دليل صحيح ، وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحة .
[ ص: 364 ] والمقصود هنا أن من قال : قولا أصاب فيه من وجه ، وأخطأ فيه من وجه آخر حتى تناقض في ذلك القول ، بحيث جمع فيه [84] بين أمرين متناقضين ، يقول [ لمن يناقضه بمقدمة جدلية سلمها له ] [85] : تناقضي [86] إنما [87] يدل على خطئي في أحد القولين : إما القول الذي سلمته لك ، وإما القول الذي ألزمتني بالتزامه [88] وهذا لا يدل على صحة قولك ، بل يمكن أن يكون القول الآخر هو الصواب .
فالأشعرية [89] العارفون بأن ، وبأن هذا قول السلف والأئمة ، وبما دل كلام الله غير مخلوق [90] على ذلك من الأدلة الشرعية والعقلية إذا قيل لهم : القول بقدم القرآن ممتنع ، أمكنهم أن يقولوا : هنا قولان آخران لمن يقول : إنه غير مخلوق كما تقدم ، ولا يلزم واحدا من القولين لازم [91] إلا ولازم قول من يقول إنه مخلوق أعظم فسادا .
فالعاقل لا يكون مستجيرا من الرمضاء بالنار ، بل إذا انتقل ينتقل من قول مرجوح [92] إلى راجح ، والذين قالوا : إنه [93] يتكلم بمشيئته وقدرته [ ص: 365 ] بعد أن لم يكن متكلما ، لا حجة للمعتزلة ونحوهم عليهم ، إلا حجة نفي الصفات ، وهي حجة داحضة ، ولا حجة للكلابية عليهم ، إلا أن ذلك يستلزم [94] دوام الحوادث ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن [95] ضده ؛ ولأن القابلية للحوادث تكون من لوازم ذاته .
وهذه الحجج [96] مما قد التزم هؤلاء ما هو [97] أضعف منها كما قد بسط في مواضعه [98] ، واعترف حذاقهم بضعف [99] جميع هذه [100] الحجج العقلية في هذا الباب ، وأما السمعيات فهي مع المثبتة لا مع النفاة .
والقول بدوام كونه متكلما إذا شاء وأن الكلام لازم لذات الرب ، معه من الحجج [101] ما يضيق هذا الموضع عن استقصائها ، وأي القولين صح أمكن الانتقال إليه .
والرازي وغيره يقولون : إن جميع طوائف [102] العقلاء يلزمهم القول بقيام الحوادث به ، فإن صح هذا أمكن القول بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته . وقد بسطنا الكلام على نهايات عقول العقلاء في هذه المسائل ، [ وما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ] [103] في كتاب " درء تعارض العقل والنقل " [104] وغير ذلك .
[ ص: 366 ] وبالجملة فما ذكر من الحجة مبني على أن السكون أمر وجودي [105] ، ( 2 وعلى أن الله يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك ، فتكون الحوادث غير دائمة 2 ) [106] ، ومن المعلوم أن فساد [107] هذين القولين ليس ظاهرا ، لا سيما وعند التحقيق يظهر صحتهما [108] أو صحة أحدهما ، وأيهما صح [109] أمكن معه القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته .
قال [110] الأشعرية : وإذا كان هذا هو الحق فنحن إذا قلنا : إن كلامه يقوم به ، فليس متعلقا بمشيئته وقدرته ، قلنا ببعض الحق وتناقضنا ، فكان [111] هذا خيرا ممن يقول : إنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره ؛ لما في هذا القول من مخالفة الشرع والعقل .