الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 354 ] الوجه الثالث أن يقال : إن كان [1] الكلابية والأشعرية إنما قالوا هذا لموافقتهم المعتزلة في الأصل الذي اضطرهم إلى ذلك ، فإنهم وافقوهم كما تقدم على صحة دليل حدوث الأجسام ، فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث . ثم قالوا : وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها .

                  فإذا قيل : الجسم لم يخل عن الحركة والسكون ، فإن الجسم إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا .

                  قالوا : والسكون الأزلي يمتنع زواله ; لأنه موجود أزلي [2] وكل موجود أزلي يمتنع زواله ، وكل جسم يجوز عليه الحركة ، فإذا جاز عليه الحركة وهو [3] أزلي وجب [4] أن تكون حركته أزلية ، لامتناع زوال السكون الأزلي [5] ولو جاز أن تكون حركته أزلية [6] لزم حوادث لا أول لها ، وذلك ممتنع ، فلزم من ذلك أن الباري لا تقوم به الحوادث ;  لأنها [7] لو قامت به لم يخل منها ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها .

                  وقد علموا بالأدلة اليقينية أن الكلام يقوم بالمتكلم ، كما يقوم العلم [ ص: 355 ] بالعالم والقدرة بالقادر ، والحركة بالمتحرك ، وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له ، بل لذلك المحل الذي خلقه فيه . فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ، ولم يعد [8] على غيره ، واشتق لذلك المحل منه اسم [9] ولم يشتق لغيره .

                  فلو [10] كان الكلام المخلوق في غيره كلاما له ، لزم أربعة أمور باطلة : [ ثبوت حكم الصفة والاسم المشتق منها لغير الله ، وانتفاء الحكم والاسم عن الله لازمان عقليان ولازمان سمعيان يلزمان ] [11] بكون [12] الكلام [13] صفة لذلك المحل لا لله ، فيكون هو المنادي بما يقوم به [14] فتكون الشجرة التي خلق فيها [15] نداء موسى هي القائلة " إنني [16] أنا الله ، لا يكون الله هو المنادي بذلك ، ويلزم أن تسمى هي متكلمة منادية لموسى ، ويلزم أن لا يكون الله متكلما ولا مناديا ولا مناجيا [17] .

                  [ ص: 356 ] وهذا خلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين ، [ وهذا قد بسط في غير هذا الموضع ] [18] .

                  وقالوا أيضا : لو لم يكن متكلما في الأزل لزم اتصافه بنقيض الكلام من السكوت أو الخرس [19] وقالوا أيضا [20] : لو كان كلامه مخلوقا لكان إن خلقه في محل كان كلاما لذلك المحل ، وإن خلقه قائما بنفسه لزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها ، وإن خلقه في نفسه لزم أن تكون نفسه محلا للمخلوقات .

                  ( 4 وهذه اللوازم الثلاثة باطلة تبطل كونه مخلوقا 4 ) [21] ، كما هو مبسوط [22] في غير هذا الموضع .

                  فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم [23] ، لزم من هذين الأصلين أن يكون الكلام قديما .

                  قالوا : وقدم الأصوات ممتنع ; لأن الصوت لا يبقى زمانين ، فتعين أن يكون القديم معنى ليس بحرف ولا صوت ، وإذا كان كذلك كان معنى واحدا ; لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ، ويمتنع وجود معان لا نهاية لها .

                  [ ص: 357 ] فهذا أصل قولهم ، فهم يقولون : نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم [24] بالرب ما هو مراد له مقدور ، وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه ، فلزم ما ذكرتموه من مناقضتنا [25] ، فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نكن متناقضين ، وإن تعذر ذلك لزم خطؤنا [26] في إحدى المسألتين ، ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه ، بل قد نكون مخطئين [27] فيما وافقناكم فيه [28] من كون الرب لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به ، مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور [29] أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية والشيعة وغيرهم ، بل لعله قول أكثر أهل الطوائف .

                  وإن لزم خطؤنا [30] في إحدى المسألتين لا بعينها لا يلزم صوابكم أنتم [31] ، بل نحن إذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين ، كانت موافقتنا لمن يقول : إن الرب يتكلم بكلام يقوم به [32] بمشيئته وقدرته خيرا من موافقتنا لمن يقول : إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره ، فإن فساد [ ص: 358 ] هذا القول في الشرع والعقل [33] أظهر من فساد القول بكونه يتكلم بكلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته .

                  ثم القائلون بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به وهم جمهور المسلمين اختلفوا على قولين : منهم قال : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته [34] بكلام [35] بعد أن لم يكن الكلام موجودا فيه ، كما تقوله الكرامية وموافقوهم .

                  ومنهم من يقول [36] : لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء ، كما تقوله أئمة أهل [37] السنة والحديث ، كعبد الله بن المبارك [38] ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما من أئمة أهل السنة [39] .

                  والكلابية   [40] يقولون : لو اضطررنا إلى موافقة من يقول : كلامه مخلوق ومن يقول : كلامه قائم بذاته ، وجنس الكلام حادث في ذاته [41] بعد أن لم يكن ، كان كلام [42] هؤلاء أخفى فسادا من قول المعتزلة ، وقول

                  [ ص: 359 ] المعتزلة أظهر فسادا ، فإن الحجة النافية لهذا وهو أن القابل للشيء [43] لا يخلو منه ومن [44] ضده حجة ضعيفة اعترف بضعفها حذاق الطوائف واعترف منصفوهم [45] أنه لا يقوم لهم دليل عقلي - بل ولا سمعي - على نفي قيام [46] الحوادث به ، إلا ما ينفي الصفات مطلقا ، وذلك في غاية الفساد ، فكيف يمكن أن يصير [47] إلى القول الآخر ، قول السلف وأهل الحديث ؟ .

                  وبالجملة فكون الرب لم يزل متكلما إذا شاء  ، كما هو قول أهل الحديث مبني على مقدمتين : على أنه تقوم به [48] الأمور الاختيارية وأن كلامه لا نهاية له .

                  قال الله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [ سورة الكهف : 109 ] وقال : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم [ سورة لقمان : 27 ] .

                  وقد قال : غير واحد من العلماء : إن مثل هذا الكلام [49] يراد به الدلالة [ ص: 360 ] على أن كلام [50] الله لا ينقضي ولا ينفد ، بل لا نهاية له [51] ومن قال : إنه يتكلم [52] بمشيئته وقدرته بكلام يقوم بذاته ، يقولون : إنه لا نهاية له [53] في المستقبل .

                  وأما في الماضي فلهم قولان : منهم من يقول : لها بداية في الماضي [54] ، وأئمتهم يقولون : لا بداية لها في الماضي [55] [ كما لا نهاية لها في المستقبل ] [56] وهذا يستلزم وجود ما لا نهاية له أزلا وأبدا من الكلمات .

                  والكلام صفة كمال  [57] ، والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، بل لا يعقل متكلم إلا كذلك . ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم . وأما الأمور المنفصلة عن الذات فلا يتصف بها ألبتة ، فضلا عن أن تكون صفة كمال أو نقص .

                  قالوا : ولم نعرف عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين من أنكر هذا الأصل ، ولا قال : إنه يمتنع وجود كلمات لا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ، ولا قالوا : ما يستلزم امتناع هذا .

                  [ ص: 361 ] وإنما قال ذلك أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة الذين أحدثوا في الإسلام نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة ، وقالوا : إنه [58] لا يتكلم ، ثم قالوا : إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله   .

                  قالوا : وإنما [59] قلنا ذلك ; لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام ، وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها ، وأن ما لا ينفك [60] عن الحوادث فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها . فلو قلنا : إنه تقوم به الصفات والكلام ، لزم قيام الحوادث به ; لأن هذه أعراض [61] حادثة .

                  فقال لهم أهل السنة : أحدثتم بدعا تزعمون [62] أنكم تنصرون بها الإسلام ، فلا للإسلام نصرتم [63] ولا لعدوه كسرتم ، بل سلطتم عليكم أهل الشرع والعقل ، فالعالمون [64] بنصوص المرسلين يعلمون أنكم خالفتموها ، وأنكم أهل بدعة وضلالة ، والعالمون بالمعاني المعقولة يعلمون أنكم قلتم ما يخالف المعقول ، وأنكم أهل خطأ وجهالة .

                  [ ص: 362 ] والفلاسفة الذين زعمتم أنكم تحتجون عليهم [65] بهذه الطريق تسلطوا [66] عليكم بها ، ورأوا أنكم خالفتم [67] صريح العقل . والفلاسفة أجهل منكم بالشرع [ والعقل في الإلهيات ، لكن لما ظنوا أن ما جئتم به هو الشرع ، وقد رأوه يخالف العقل - صاروا أبعد عن الشرع والعقل منكم ] [68] لكن [69] عارضوكم بأدلة عقلية - بل وشرعية - ظهر [70] بها عجزكم في هذا الباب عن بيان حقيقة الصواب .

                  وكان ذلك مما زادهم ضلالا في أنفسهم وتسلطا عليكم ، ولو سلكتم معهم طريق [71] العارفين بحقيقة المعقول والمنقول ، لكان ذلك أنصر لكم وأتبع لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - [72] ولكنكم كنتم بمنزلة من جاهد الكفار بنوع من الكذب والعدوان ، وأوهمهم [73] أن هذا يدخل في حقيقة الإيمان ، فصار ما عرفه أولئك من كذب هؤلاء وعدوانهم مما يوجب القدح فيما ادعوه من إيمانهم ، ولما رأى أولئك في الملك [74] والرياسة والمال ، من جنس هذه المخادعة والمحال - سلكوا [ ص: 363 ] طريقا أبلغ في المخادعة [75] والمحال من طرق أولئك المبتدعين الضالين [76] ، فسلطوا عليهم عقوبة لهم على خروجهم عن الدين .

                  قال الله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ آل عمران : 165 ] وقال : [77] : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم [ آل عمران : 155 ] وقال : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين ] [78] [ آل عمران : 166 ] .

                  فما جاء به الرسول حق محض يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول ، والأقوال المخالفة لذلك وإن كان كثير من أصحابها [79] مجتهدين مغفورا لهم خطؤهم ، فلا يملكون [80] نصرها بالأدلة العلمية ، ولا الجواب عما يقدح فيها بالأجوبة العلمية ، فإن الأدلة العقلية [81] الصحيحة لا تدل إلا على القول الحق ، والأجوبة الصحيحة المفسدة [82] لحجة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة ، فإن ما هو باطل [83] لا يقوم عليه دليل صحيح ، وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحة .

                  [ ص: 364 ] والمقصود هنا أن من قال : قولا أصاب فيه من وجه ، وأخطأ فيه من وجه آخر حتى تناقض في ذلك القول ، بحيث جمع فيه [84] بين أمرين متناقضين ، يقول [ لمن يناقضه بمقدمة جدلية سلمها له ] [85] : تناقضي [86] إنما [87] يدل على خطئي في أحد القولين : إما القول الذي سلمته لك ، وإما القول الذي ألزمتني بالتزامه [88] وهذا لا يدل على صحة قولك ، بل يمكن أن يكون القول الآخر هو الصواب .

                  فالأشعرية [89] العارفون بأن كلام الله غير مخلوق  ، وبأن هذا قول السلف والأئمة ، وبما دل [90] على ذلك من الأدلة الشرعية والعقلية إذا قيل لهم : القول بقدم القرآن ممتنع ، أمكنهم أن يقولوا : هنا قولان آخران لمن يقول : إنه غير مخلوق كما تقدم ، ولا يلزم واحدا من القولين لازم [91] إلا ولازم قول من يقول إنه مخلوق أعظم فسادا .

                  فالعاقل لا يكون مستجيرا من الرمضاء بالنار ، بل إذا انتقل ينتقل من قول مرجوح [92] إلى راجح ، والذين قالوا : إنه [93] يتكلم بمشيئته وقدرته [ ص: 365 ] بعد أن لم يكن متكلما ، لا حجة للمعتزلة ونحوهم عليهم ، إلا حجة نفي الصفات ، وهي حجة داحضة ، ولا حجة للكلابية عليهم ، إلا أن ذلك يستلزم [94] دوام الحوادث ; لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن [95] ضده ؛ ولأن القابلية للحوادث تكون من لوازم ذاته .

                  وهذه الحجج [96] مما قد التزم هؤلاء ما هو [97] أضعف منها كما قد بسط في مواضعه [98] ، واعترف حذاقهم بضعف [99] جميع هذه [100] الحجج العقلية في هذا الباب ، وأما السمعيات فهي مع المثبتة لا مع النفاة .

                  والقول بدوام كونه متكلما إذا شاء وأن الكلام لازم لذات الرب ، معه من الحجج [101] ما يضيق هذا الموضع عن استقصائها ، وأي القولين صح أمكن الانتقال إليه .

                  والرازي وغيره يقولون : إن جميع طوائف [102] العقلاء يلزمهم القول بقيام الحوادث به ، فإن صح هذا أمكن القول بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته . وقد بسطنا الكلام على نهايات عقول العقلاء في هذه المسائل ، [ وما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ] [103] في كتاب " درء تعارض العقل والنقل " [104] وغير ذلك .

                  [ ص: 366 ] وبالجملة فما ذكر من الحجة مبني على أن السكون أمر وجودي [105] ، ( 2 وعلى أن الله يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك ، فتكون الحوادث غير دائمة 2 ) [106] ، ومن المعلوم أن فساد [107] هذين القولين ليس ظاهرا ، لا سيما وعند التحقيق يظهر صحتهما [108] أو صحة أحدهما ، وأيهما صح [109] أمكن معه القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته .

                  قال [110] الأشعرية : وإذا كان هذا هو الحق فنحن إذا قلنا : إن كلامه يقوم به ، فليس متعلقا بمشيئته وقدرته ، قلنا ببعض الحق وتناقضنا ، فكان [111] هذا خيرا ممن يقول : إنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره ؛ لما في هذا القول من مخالفة الشرع والعقل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية