( فصل ) قال الرافضي المصنف :
[1] " وقالت الكرامية :
nindex.php?page=treesubj&link=28730إن الله [2] في جهة فوق ; ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة
[3] [ فهو محدث ]
[4] ومحتاج إلى تلك الجهة " .
فيقال له أولا : لا
الكرامية ولا غيرهم يقولون : إنه في جهة موجودة تحيط به
[5] أو يحتاج إليها ، بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني
[6] عن كل ما سواه : سمي جهة أو لم يسم
[7] .
نعم قد يقولون : " هو في جهة " ويعنون بذلك أنه فوق العالم ، فهذا مذهب
الكرامية وغيرهم
[8] ، وهو أيضا مذهب أئمة
الشيعة وقدمائهم
[9] كما
[ ص: 642 ] تقدم ذكره ، وأنت لم تذكر حجة على إبطاله ، فمن شنع على الناس بمذاهبهم
[10] ، فلا بد أن يشير إلى إبطاله
[11] ، وجمهور الخلق
[12] على أن الله فوق العالم ، وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ " الجهة " فهم يعتقدون بقلوبهم [ ويقولون ]
[13] بألسنتهم أن
[14] ربهم فوق ، ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه ، كما قال الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=11965أبو جعفر الهمذاني [15] لبعض
[ ص: 643 ] من أخذ ينكر الاستواء ويقولون
[16] :
nindex.php?page=treesubj&link=28727_29639لو استوى على العرش لقامت به الحوادث ، فقال
أبو جعفر [17] ما معناه : إن الاستواء علم بالسمع ، ولو لم يرد به لم نعرفه ، وأنت قد تتأوله ، فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ، فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلا وقبل أن ينطق بلسانه
[18] ، يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا ؟ فلطم المتكلم رأسه
[19] وقال : حيرني
الهمداني ، [ حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ]
[20] .
ومضمون كلامه
[21] أن دليلك على النفي لو صح فهو
[22] نظري ، ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا
[23] ، فنحن مضطرون إلى هذا العلم
[24] وإلى
[ ص: 644 ] هذا القصد ، فهل عندك [ من ] حيلة
[25] في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ; ثم بعد ذلك قرر نقيضه .
وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن ، لأن النظريات
[26] غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية . فالضروريات أصل النظريات ، فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات ، فتبطل الضروريات والنظريات ، ( 3 فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير 3 )
[27] ، إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضي فساده في نفسه ، وإذا فسد بطل قدحه ، ( * فيكون قدحه باطلا على [ تقدير ] صحته
[28] وعلى تقدير فساده * )
[29] ، فإن صحته مستلزمة لصحة أصله ، فإذا صح كان أصله صحيحا ، وفساده لا يستلزم فساد أصله ، إذ قد يكون الفساد منه ، ولو قدح في أصله للزم فساده ، وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه ، فلا يقبل قدحه بحال .
( * وهذا [ لأن ]
[30] الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ، ومن فساد الأخرى ، ومن فساد النظم ، فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات ، بخلاف المقدمات ، فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل * )
[31] .
[ ص: 645 ] وأيضا ، فإن هؤلاء قرروا ذلك
[32] بأدلة عقلية ، كقولهم : كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان
[33] ، وقالوا : إن العلم بذلك ضروري ، وقالوا : إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل .
وأيضا ، فمن المعلوم أن القرآن نطق
[34] بالعلو في مواضع كثيرة [ جدا ]
[35] ، حتى قد قيل
[36] إنها نحو
[37] ثلاثمائة موضع ، والسنن متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك ، وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم
[38] من ينكره .
ومن يريد التشنيع على الناس ، ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة . ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه
[39] ، وهو لم يذكر دليلا إلا قوله : " ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة " .
فيقال له : لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك
[40] ، فإن قولك : ما هو محتاج إلى تلك الجهة ، إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغني عنها ، فلا ريب أن من قال : إن الباري لا يقوم
[ ص: 646 ] إلا بمحل يحل فيه لا يستغني عن ذلك وهي مستغنية عنه ، فقد جعله محتاجا إلى غيره ، وهذا لم يقله أحد .
وأيضا لم نعلم أحدا قال : إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته ، فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته . ولا يقول أحد : إن الله محتاج إلى العرش ، مع أنه خالق العرش ، والمخلوق مفتقر إلى الخالق ، لا يفتقر الخالق إلى المخلوق ، وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات ، وهو الغني عن العرش ، وكل ما سواه فقير إليه .
nindex.php?page=treesubj&link=29639فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون : إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم ، كيف وهم يقولون : إنه كان موجودا قبل العرش ؟ فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش .
وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه ، فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ، ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله ، فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها ، وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها ، وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليست محتاجة إلى ذلك ، فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته
[41] لكونه فوقها عاليا عليها ؟ !
[ ص: 647 ] ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء ، وأنه لا حول ولا قوة إلا به ، وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها ، بل نقول : إنه خالق أفعال
[42] الملائكة الحاملين للعرش
[43] ; فإذا كان هو الخالق لهذا كله ، ولا حول ولا قوة إلا به ، امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره .
ولو احتج عليه سلفه مثل
يونس [ بن عبد الرحمن ] القمي [44] وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا ، لم يكن له
[45] عليهم حجة ، فإنهم يقولون : لم نقل إنه محتاج إلى غيره ، بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ، ولكن قلنا : إنه على كل شيء قدير ، فإذا جعلناه قادرا على هذا ، كان ذلك وصفا له بكمال الاقتدار ، لا بالحاجة إلى الأغيار .
[ ص: 648 ] وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ " الجهة " يراد به أمر موجود وأمر معدوم ; فمن قال : إنه فوق العالم كله ، لم يقل : إنه في جهة موجودة ، إلا أن يراد
[46] بالجهة ( * العرش ، ويراد بكونه فيها أنه عليها ، كما قد
[47] قيل في قوله : إنه في السماء ، أي على السماء .
وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها ، وهو غني عنها ، لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها ، فضلا عن أن يحتاج إليها .
وإن أريد بالجهة * )
[48] ما فوق العالم ، فذاك ليس بشيء ، ولا هو أمر موجود
[49] حتى يقال : إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه . وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا أنه
[50] إذا كان في جهة كان في [ كل ]
[51] شيء غيره ، كما يكون الإنسان في بيته [ وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ]
[52] ، ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره ، والله تعالى غني عن كل ما سواه ، وهذه مقدمات كلها باطلة .
وكذلك قوله : " كل ما هو في جهة فهو محدث " لم يذكر عليه دليلا ، وغايته
[53] ما تقدم من أن [ الله ]
[54] nindex.php?page=treesubj&link=28730لو كان في جهة لكان جسما ، وكل جسم
[ ص: 649 ] محدث ، لأن الجسم لا يخلو من الحوادث [ وما لا يخلو من الحوادث ]
[55] فهو حادث .
وكل هذه المقدمات فيها نزاع : فمن الناس من يقول : قد يكون في الجهة ما ليس بجسم ; فإذا قيل له : هذا خلاف المعقول ، قال : هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول : إنه لا داخل العالم ولا خارجه ، فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى ، وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى ، وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة ، [ فثبت أنه في الجهة ]
[56] على التقديرين .
ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث ، كسلفه من
الشيعة والكرامية وغيرهم ، والكلام معهم .
وهؤلاء لا يسلمون [ له ]
[57] أن الجسم لا يخلو من الحوادث ، بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث ، كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل
[58] .
وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة
[59] ينازعهم
[60] في قولهم : إن ما لا يخلو عن الحادث
[61] فهو حادث .
[ ص: 650 ] وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ
الرافضة [ الموافقين ]
للمعتزلة [62] عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من [
الرافضة ]
[63] فضلا ، عن غيرهم من الطوائف .
تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله : ( فصل ) : قال الرافضي : وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد .
( فَصْلٌ ) قَالَ الرَّافِضِيُّ الْمُصَنِّفُ :
[1] " وَقَالَتِ الْكَرَّامِيَّةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28730إِنَّ اللَّهَ [2] فِي جِهَةٍ فَوْقُ ; وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِي جِهَةٍ
[3] [ فَهُوَ مُحْدَثٌ ]
[4] وَمُحْتَاجٌ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ " .
فَيُقَالُ لَهُ أَوَّلًا : لَا
الْكَرَّامِيَّةُ وَلَا غَيْرُهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّهُ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ تُحِيطُ بِهِ
[5] أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا ، بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ
[6] عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ : سُمِّيَ جِهَةً أَوْ لَمْ يُسَمَّ
[7] .
نَعَمْ قَدْ يَقُولُونَ : " هُوَ فِي جِهَةٍ " وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ ، فَهَذَا مَذْهَبُ
الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ
[8] ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ
الشِّيعَةِ وَقُدَمَائِهِمْ
[9] كَمَا
[ ص: 642 ] تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَنْتَ لَمْ تَذَكُرْ حُجَّةً عَلَى إِبْطَالِهِ ، فَمَنْ شَنَّعَ عَلَى النَّاسِ بِمَذَاهِبِهِمْ
[10] ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُشِيرَ إِلَى إِبْطَالِهِ
[11] ، وَجُمْهُورُ الْخَلْقِ
[12] عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَلْفِظُ بِلَفْظِ " الْجِهَةِ " فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ بِقُلُوبِهِمْ [ وَيَقُولُونَ ]
[13] بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّ
[14] رَبَّهُمْ فَوْقُ ، وَيَقُولُونَ إِنَّ هَذَا أَمْرٌ فُطِرُوا عَلَيْهِ وَجُبِلُوا عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ
nindex.php?page=showalam&ids=11965أَبُو جَعْفَرٍ الْهَمَذَانِيُّ [15] لِبَعْضِ
[ ص: 643 ] مَنْ أَخَذَ يُنْكِرُ الِاسْتِوَاءَ وَيَقُولُونَ
[16] :
nindex.php?page=treesubj&link=28727_29639لَوِ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ ، فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ [17] مَا مَعْنَاهُ : إِنَّ الِاسْتِوَاءَ عُلِمَ بِالسَّمْعِ ، وَلَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ لَمْ نَعْرِفْهُ ، وَأَنْتَ قَدْ تَتَأَوَّلُهُ ، فَدَعْنَا مِنْ هَذَا وَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذِهِ الضَّرُورَةِ الَّتِي نَجِدُهَا فِي قُلُوبِنَا ، فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِفٌ قَطُّ : يَا اللَّهُ ، إِلَّا وَقَبْلَ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِهِ
[18] ، يَجِدُ فِي قَلْبِهِ مَعْنًى يَطْلُبُ الْعُلُوَّ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ حِيلَةٍ فِي دَفْعِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ عَنْ قُلُوبِنَا ؟ فَلَطَمَ الْمُتَكَلِّمُ رَأْسَهُ
[19] وَقَالَ : حَيَّرَنِي
الْهَمْدَانِيُّ ، [ حَيَّرَنِي الْهَمْدَانِيُّ ، حَيَّرَنِي الْهَمْدَانِيُّ ]
[20] .
وَمَضْمُونُ كَلَامِهِ
[21] أَنَّ دَلِيلَكَ عَلَى النَّفْيِ لَوْ صَحَّ فَهُوَ
[22] نَظَرِيٌّ ، وَنَحْنُ نَجِدُ عِنْدَنَا عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِهَذَا
[23] ، فَنَحْنُ مُضْطَرُّونَ إِلَى هَذَا الْعِلْمِ
[24] وَإِلَى
[ ص: 644 ] هَذَا الْقَصْدِ ، فَهَلْ عِنْدَكَ [ مِنْ ] حِيلَةٍ
[25] فِي دَفْعِ هَذَا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَالْقَصْدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي يَلْزَمُنَا لُزُومًا لَا يُمْكِنُنَا دَفْعُهُ عَنْ أَنْفُسِنَا ; ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَرِّرْ نَقِيضَهُ .
وَأَمَّا دَفْعُ الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ ، لِأَنَّ النَّظَرِيَّاتِ
[26] غَايَتُهَا أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهَا بِمُقَدِّمَاتٍ ضَرُورِيَّةٍ . فَالضَّرُورِيَّاتُ أَصْلُ النَّظَرِيَّاتِ ، فَلَوْ قَدَحَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بِالنَّظَرِيَّاتِ لَكَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي أَصْلِ النَّظَرِيَّاتِ ، فَتَبْطُلُ الضَّرُورِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ ، ( 3 فَيَلْزَمُنَا بُطْلَانُ قَدْحِهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ 3 )
[27] ، إِذْ كَانَ قَدْحُ الْفَرْعِ فِي أَصْلِهِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ بَطَلَ قَدَحُهُ ، ( * فَيَكُونُ قَدَحُهُ بَاطِلًا عَلَى [ تَقْدِيرِ ] صِحَّتِهِ
[28] وَعَلَى تَقْدِيرِ فَسَادِهِ * )
[29] ، فَإِنَّ صِحَّتَهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِحَّةِ أَصْلِهِ ، فَإِذَا صَحَّ كَانَ أَصْلُهُ صَحِيحًا ، وَفَسَادُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ فَسَادَ أَصْلِهِ ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْفَسَادُ مِنْهُ ، وَلَوْ قَدَحَ فِي أَصْلِهِ لَلَزِمَ فَسَادُهُ ، وَإِذَا كَانَ فَاسِدًا لَمْ يُقْبَلْ قَدْحُهُ ، فَلَا يُقْبَلُ قَدْحُهُ بِحَالٍ .
( * وَهَذَا [ لِأَنَّ ]
[30] الدَّلِيلَ النَّظَرِيَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَعَلَى تَأْلِيفِهَا قَدْ يَكُونُ فَسَادُهُ مِنْ فَسَادِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ ، وَمِنْ فَسَادِ الْأُخْرَى ، وَمِنْ فَسَادِ النَّظْمِ ، فَلَا يَلْزَمُ إِذَا كَانَ بَاطِلًا أَنْ يَبْطُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ ، بِخِلَافِ الْمُقَدِّمَاتِ ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ وَاحِدٌ مِنْهَا بَاطِلًا بَطَلَ الدَّلِيلُ * )
[31] .
[ ص: 645 ] وَأَيْضًا ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَرَّرُوا ذَلِكَ
[32] بِأَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ ، كَقَوْلِهِمْ : كُلُّ مَوْجُودَيْنِ إِمَّا مُتَبَايِنَانِ وَإِمَّا مُتَدَاخِلَانِ
[33] ، وَقَالُوا : إِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ ، وَقَالُوا : إِثْبَاتُ مَوْجُودٍ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ .
وَأَيْضًا ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ
[34] بِالْعُلُوِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ [ جِدًّا ]
[35] ، حَتَّى قَدْ قِيلَ
[36] إِنَّهَا نَحْوُ
[37] ثَلَاثِمِائَةِ مَوْضِعٍ ، وَالسُّنَنُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَكَلَامُ السَّلَفِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ بِالتَّوَاتُرِ يَقْتَضِي اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ
[38] مَنْ يُنْكِرُهُ .
وَمَنْ يُرِيدُ التَّشْنِيعَ عَلَى النَّاسِ ، وَدَفْعَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ حُجَّةً . وَلْنَفْرِضْ أَنَّهُ لَا يُنَاظِرُهُ إِلَّا أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ
[39] ، وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ دَلِيلًا إِلَّا قَوْلُهُ : " وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِي جِهَةٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ " .
فَيُقَالُ لَهُ : لَمْ يَعْلَمُوا ذَلِكَ وَلَمْ تَذْكُرْ مَا بِهِ يُعْلَمُ ذَلِكَ
[40] ، فَإِنَّ قَوْلَكَ : مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ ، إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْجِهَةُ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَكَانَتْ لَازِمَةً لَهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْبَارِي لَا يَقُومُ
[ ص: 646 ] إِلَّا بِمَحَلٍّ يَحُلُّ فِيهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ وَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْهُ ، فَقَدْ جَعَلَهُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ .
وَأَيْضًا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ : إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِ مَخْلُوقَاتِهِ . وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إِنَّ اللَّهَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَرْشِ ، مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ الْعَرْشِ ، وَالْمَخْلُوقُ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَالِقِ ، لَا يَفْتَقِرُ الْخَالِقُ إِلَى الْمَخْلُوقِ ، وَبِقُدْرَتِهِ قَامَ الْعَرْشُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنِ الْعَرْشِ ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29639فَمَنْ فَهِمَ عَنِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ طَوَائِفِ الْإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ اللَّهَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَرْشِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِمْ ، كَيْفَ وَهَمَ يَقُولُونَ : إِنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ ؟ فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْعَرْشِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَغْنِيًا عَنِ الْعَرْشِ .
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ ، وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُحْتَاجًا إِلَى سَافِلِهِ ، فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ السَّحَابُ فَوْقَهَا وَلَيْسَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ السَّمَاوَاتُ فَوْقَ السَّحَابِ وَالْهَوَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إِلَى ذَلِكَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مُحْتَاجًا إِلَى مَخْلُوقَاتِهِ
[41] لِكَوْنِهِ فَوْقَهَا عَالِيًا عَلَيْهَا ؟ !
[ ص: 647 ] وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ ، وَأَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي فِي الْعَرْشِ وَفِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ هُوَ خَالِقُهَا ، بَلْ نَقُولُ : إِنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ
[42] الْمَلَائِكَةِ الْحَامِلِينَ لِلْعَرْشِ
[43] ; فَإِذَا كَانَ هُوَ الْخَالِقُ لِهَذَا كُلِّهِ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ .
وَلَوِ احْتَجَّ عَلَيْهِ سَلَفُهُ مِثْلُ
يُونُسَ [ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ] الْقُمِّيِّ [44] وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْعَرْشَ يَحْمِلُهُ بِمِثْلِ هَذَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ
[45] عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَمْ نَقُلْ إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى غَيْرِهِ ، بَلْ مَا زَالَ غَنِيًّا عَنِ الْعَرْشِ وَغَيْرِهِ ، وَلَكِنْ قُلْنَا : إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، فَإِذَا جَعَلْنَاهُ قَادِرًا عَلَى هَذَا ، كَانَ ذَلِكَ وَصْفًا لَهُ بِكَمَالِ الِاقْتِدَارِ ، لَا بِالْحَاجَةِ إِلَى الْأَغْيَارِ .
[ ص: 648 ] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ لَفْظَ " الْجِهَةِ " يُرَادُ بِهِ أَمْرٌ مَوْجُودٌ وَأَمْرٌ مَعْدُومٌ ; فَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ كُلِّهِ ، لَمْ يَقُلْ : إِنَّهُ فِي جِهَةٍ مَوْجُودَةٍ ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ
[46] بِالْجِهَةِ ( * الْعَرْشُ ، وَيُرَادُ بِكَوْنِهِ فِيهَا أَنَّهُ عَلَيْهَا ، كَمَا قَدْ
[47] قِيلَ فِي قَوْلِهِ : إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ ، أَيْ عَلَى السَّمَاءِ .
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جِهَةٌ وُجُودِيَّةٌ يَكُنْ فِيهَا ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهَا .
وَإِنْ أُرِيدَ بِالْجِهَةِ * )
[48] مَا فَوْقَ الْعَالَمِ ، فَذَاكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَلَا هُوَ أَمْرٌ مَوْجُودٌ
[49] حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ أَخَذُوا لَفْظَ الْجِهَةِ بِالِاشْتِرَاكِ وَتَوَهَّمُوا وَأَوْهَمُوا أَنَّهُ
[50] إِذَا كَانَ فِي جِهَةٍ كَانَ فِي [ كُلِّ ]
[51] شَيْءٍ غَيْرِهِ ، كَمَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي بَيْتِهِ [ وَكَمَا يَكُونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ فِي السَّمَاءِ ]
[52] ، ثُمَّ رَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى غَيْرِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ، وَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " كُلُّ مَا هُوَ فِي جِهَةٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ " لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، وَغَايَتُهُ
[53] مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ [ اللَّهَ ]
[54] nindex.php?page=treesubj&link=28730لَوْ كَانَ فِي جِهَةٍ لَكَانَ جِسْمًا ، وَكُلُّ جِسْمٍ
[ ص: 649 ] مُحْدَثٌ ، لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنَ الْحَوَادِثِ [ وَمَا لَا يَخْلُو مِنَ الْحَوَادِثِ ]
[55] فَهُوَ حَادِثٌ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فِيهَا نِزَاعٌ : فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : قَدْ يَكُونُ فِي الْجِهَةِ مَا لَيْسَ بِجِسْمٍ ; فَإِذَا قِيلَ لَهُ : هَذَا خِلَافُ الْمَعْقُولِ ، قَالَ : هَذَا أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ، فَإِنْ قَبِلَ الْعَقْلُ ذَاكَ قَبِلَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنْ رَدَّ هَذَا رَدَّ ذَاكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِذَا رَدَّ ذَاكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجِهَةِ ، [ فَثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْجِهَةِ ]
[56] عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُحْدَثٌ ، كَسَلَفِهِ مِنَ
الشِّيعَةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ .
وَهَؤُلَاءِ لَا يُسَلِّمُونَ [ لَهُ ]
[57] أَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنَ الْحَوَادِثِ ، بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ خُلُوُّ الْجِسْمِ عَنِ الْحَرَكَةِ وَكُلِّ حَادِثٍ ، كَمَا يُجَوِّزُ مُنَازِعُوهُمْ خُلُوَّ الصَّانِعِ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ فَعَلَ
[58] .
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ
[59] يُنَازِعُهُمْ
[60] فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ
[61] فَهُوَ حَادِثٌ .
[ ص: 650 ] وَكُلُّ مَقَامٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ تَعْجِزُ شُيُوخُ
الرَّافِضَةِ [ الْمُوَافِقِينَ ]
لِلْمُعْتَزِلَةِ [62] عَنْ تَقْرِيرِ قَوْلِهِمْ فِيهِ عَلَى إِخْوَانِهِمُ الْقُدَمَاءِ مِنَ [
الرَّافِضَةِ ]
[63] فَضْلًا ، عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الطَّوَائِفِ .
تَمَّ الْجُزْءُ الثَّانِي بِحَمْدِ اللَّهِ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّالِثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَوَّلُهُ : ( فَصْلٌ ) : قَالَ الرَّافِضِيُّ : وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِ مَقْدُورِ الْعَبْدِ .